كان أبو عدس لاعتبارات عديدة كثير المتابعة وشديد التأثر بما كان يحصل في السعودية: أولها؛ لأن السيطرة الأمريكية على بلاد الحرمين كانت موضوعاً مركزياً في معظم الخطاب الجهادي منذ النصف الثاني من عقد التسعينات الأخير.
هل الذئب الجهادي بريء من دم الحريري؟ (1)
في 18 آب من العام 2020، أعلنت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حكمها في عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. وكانت "غرفة الدرجة الأولى قد قررت بالإجماع أنّ المتهم، سليم جميل عياش، مذنب على نحو لا يشوبه أي شك معقول بجميع التهم المسندة إليه". فيما جاء في الحكم، أن إعلان جماعة أصولية تدعى "جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام" الذي جاء على لسان أحمد أبو عدس مسؤوليتها عن اغتيال الحريري بوصفه "عميلاً للنظام السعودي الكافر"، هو "إعلان للمسؤولية زوراً"، على اعتبار أن "الجماعة المذكورة هي وهمية، والسيد أبو عدس لم يقتل نفسه في الانفجار لأنه لم يكن انتحاري". وفي 11 كانون الأول 2020، أصدرت المحكمة ذاتها حكمها بتحديد عقوبة السجن المؤبد على السيد جميل عياش "في التهم الخمس المسندة إليه في قرار الاتهام الموحد المعدل". وبذلك أسدلت المحكمة في حينها ستارها الأخير في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، معلنة تورط أحد الأعضاء الفاعلين في حزب الله في هذه العملية بالاستناد إلى "أدلة ظرفية"، فيما استبعدت تماماً إمكانية انخراط حركة جهادية في هذا الاغتيال. فهل كان الذئب الجهادي بريئاً حقّاً من دم رفيق الحريري؟
اختارت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان منذ بداية عملها أن تتجنب التحقيق بالرواية المتعلقة بتورط الجهاديين لأسباب أثار البعض حولها الكثير من علامات الاستفهام، فهي لم تدرس بعمق ما إذا كانت هذه الرواية تستحق أصلاً أن تؤخذ على محمل الجد أم لا. كما أنها أسقطت تماماً من الحسبان الأسباب والدوافع التي قد تدفع التيار الجهادي لارتكاب عملية اغتيال من هذا النوع. وبالتالي بقيت الكثير من الأسئلة المبهمة حول هذه القضية معلّقة بلا إجابات، مما حولّها إلى لغز أمني ذو قابلية عالية للتوظيف والاستخدام السياسيين في أوضاع دقيقة وشديدة الحساسية تخللت المشهد اللبناني في تلك الحقبة. فهل كان هناك ثمة سياق سياسي مختلف عما قدمته المحكمة يستحق العناية المركزة يتعلق بتورط الجهاديين في العملية؟ ثم ما هي حقيقة أحمد أبو عدس الذي ظهر ليعلن تبني الاغتيال؟ وهل يمتلك التيار الجهادي أصلاً الإمكانات اللازمة للقيام بعملية بهذا المستوى؟ لماذا لم تظهر علامات أخرى لتبني هذه العملية على لسان قادة آخرين في هذا التيار؟ هل هناك عمليات اغتيال سياسية سابقة قامت بها الحركات الجهادية دون التمسك بإعلان المسؤولية عنها؟ ما هي قصة المجموعة 13 التي ربطها التحقيق اللبناني ابتداء بعملية الاغتيال، ثم اختفت نهائياً عن مسرح الجريمة مع التحقيق الدولي؟ هل نتائج عملية الاغتيال كانت تخدم فعلاً إستراتيجية عمل التيار الجهادي في المنطقة في وقتها؟ تلك هي نوعية الأسئلة التي طويت في لحظة مباغتة دون محاولة الإجابة عنها في ملفات المحكمة الدولية التي كان لها مسلك آخر في تحديد مسار مجريات التحقيق.
جاء في القرار الختامي للمحكمة الخاصة بلبنان بأن "فهم الخلفية السياسية للاعتداء ضروري لفهم سبب استهداف السيد الحريري بهذه الطريقة"، وأنه لا بد من أجل "اكتمال الصورة وضع الاعتداء في إطار تاريخي أوسع". وعلى الرغم من دقّة هذا الكلام، إلا أن السياق السياسي والإطار التاريخي الذي ارتأت تحقيقات المحكمة أن تدور في فلكه هو سياق محلي بامتياز، مضافاً إليه معطى الوجود السوري في لبنان آنداك، دون الأخذ بعين الاعتبار مجريات الأمور وتدفق الأحداث على الساحتين الإقليمية والدولية. فقد تبدّى منذ بداية ظهور تقارير التحقيقات الأولية للمحكمة الاتجاه الذي يُراد للتحقيق أن يسلكه. ففي 19 أكتوبر 2005، جاء في التقرير الدولي الذي أعدّه المحقق الألماني ديتليف ميليس: "من المعروف أن المخابرات العسكرية السورية كان لها وجود واسع الانتشار في لبنان على الأقل حتى انسحاب القوات السورية بموجب القرار 1559. وتعمل أجهزة المخابرات السورية واللبنانية جنبًا إلى جنب، لذا، سيكون من الصعب تصور سيناريو يمكن من خلاله تنفيذ مؤامرة الاغتيال المعقدة هذه دون علمهم." حذا كل من سيرج براميرتس ودانيال بالمار حذو ميليس في تقاريرهم المتتالية مع تركيز أكبر على الجوانب الفنية والتقنية للعملية، وظل هذا الاتجاه مسيطراً حتى ظهور النتائج الأخيرة لتحقيقات المحكمة. وإن كان سير التحقيق قد فشل في توجيه أصابع الاتهام مباشرة لشخصيات في الدولة السورية، أو شخصيات أخرى في أجهزة الاستخبارات اللبنانية المتعاونة معها، لكنه انتهى في آخر المطاف باتهام شخص ينتمي لحزب الله، الحليف الأكبر لسوريا في لبنان.
الرواية الأخرى - خلفية تاريخية:
مع بداية انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1989، كان منظرو الولايات المتحدة الأمريكية في ذروة الشعور بالتفوق الحضاري يعدون أطروحاتهم حول "نهاية التاريخ". فيما كانت التنظيمات السلفية الجهادية، وعلى رأسها القاعدة، تبحث عن بداية تاريخ جديد لهذا العالم. فقد رأت الأولى أنها المنتصر الأكبر من هذا السقوط، وتعدّ نفسها لعالم بقيادة القطب الواحد. فيما اعتبرت الثانية أنها أحد أهم عوامل تنشيط الفناء الحضاري للقطب الشيوعي، وأنه آن للإسلام أن يعدّ نفسه ليكون له دور محوري في الخرائط السياسية الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط. ولا شك بأن هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان قد ضخّمت طموحات الجهاديين لحدها الأقصى، وباتت تنظر لنفسها كفاعل جديد في السياسة الإقليمية، قادر على لعب دور أكبر في تغيير ملامح المشهد السياسي في المنطقة ككل. فأفغانستان كانت هي الحرب الأولى التي ينتصر فيها التيار الجهادي الصاعد، بعد أن فشلت معظم الحركات الإسلامية النضالية المحلية في تحقيق أي إنجاز يُذكر لها في كل من سوريا ومصر والجزائر وليبيا وغيرها من الدول العربية والإسلامية. بينما كان بن لادن يتحيّن الفرصة التالية بعد أفغانستان للتعبير عن هذه الفاعلية. حاول الرجل ابتداء عرض خدماته على السعودية للعمل مع المجاهدين في اليمن الجنوبي ضد النهج الشيوعي قبل الوحدة مع اليمن الشمالي في العام 1990، لكن الأمير تركي الفيصل رفض ذلك العرض في وقتها. ثم لم يجد بن لادن بعد ذلك أفضل من غزو عراق صدام حسين للكويت في أغسطس من العام 1990، كي يستعد للشروع في رحلة جهادية ثانية على مقربة من المركز الإسلامي الأهم، شبه الجزيرة العربية، لكن السعودية رفضت مرة أخرى أي دور لبن لادن في مواجهة الأخطار المحدقة بالمملكة.
كانت منطقة الشرق الأوسط والعالم برمته من حولها يشهدان تحولات جذرية في العقد الأخير من القرن العشرين. وكان بن لادن -ومن خلفه القاعدة- قد طور ثقافة سياسية معينة أضحت معها نصرة المسلمين المضطهدين مصدراً رئيساً للشرعية السياسية والمكانة الاجتماعية. احتلت السعودية مكاناً محورياً في هذه الثقافة التي أعلى من شأنها التيار الجهادي. فقد كانت المملكة في ثمانينات القرن المنصرم هي الخزّان الأساس للمقاتلين والمورد المالي الأهم للمجاهدين في أفغانستان والبوسنة والشيشان وغيرها من المناطق. يضاف إلى ذلك، أن المملكة العربية السعودية كانت تحتضن وتروّج للإسلام السلفي التقليدي المحافظ، وهي المرجعية العقدية التي تبنتها التيارات الجهادية وشكلت جزءاً مركزياً من خطابها، مما جعل إمكانية التقاطع واردة في أكثر من مناسبة. فالتعاليم السلفية كانت هي الأساس التي يبني عليها النظام السعودي ومعارضوه الذي يؤمنون بالعنف خطابهم، لكن الاستنتاجات السياسية كانت شديدة التباين. وكانت حرب الخليج الأولى هي النقطة الأساسية التي بدا معها ظهور هذا التباين بصورة جليّة. ورفض المملكة لعرض بن لادن في المساعدة لمواجهة العراق آنذاك، قطع عقدة الرابط الثلاثي المتمثل في أمريكا والسعودية والتيار الجهادي، والذي اجتمع فيما سبق في حمأة إيديولوجية لمواجهة "الخطر الشيوعي الأحمر".
حين آثرت المملكة العربية السعودية الاستعانة بقوات أجنبية للخلاص من طموحات صدام حسين في منطقة الخليج، حيث لجأ الملك فهد في السابع من آب 1990 إلى التماس المساعدة العاجلة من واشنطن، ودعا فرقها العسكرية للإقامة في بلاده ريثما يتم تحرير الكويت، أثيرت عاصفة من الاضطراب في الوسط الديني السعودي كانت لها عواقب كبيرة في داخل المملكة، وأفضت إلى انبجاس ثلاث تطورات أثّرت بعمق في الواقع السعودي لما يقرب من العقد ونيف. أولاً: بروز سجال فكري حاد حول مشروعية أو جواز استدعاء قوات أجنبية إلى أرض المملكة، ابتداءً مع "الصحوّيين" في الداخل السعودي الرافضين لمبدأ العنف، وصولاً إلى مختلف أطياف التيار الجهادي الصاعد الذي يؤمن بالعنف كوسيلة للتغيير. تطوّر هذا السجال فيما بعد ليتحول تدريجياً إلى طعن من قبل المعارضين في شرعية النظام السعودي وظهور أصوات تنادي بالخروج عليه. ثانياً: ظهور تغير في المحتوى السياسي لفكرة الجهاد المعاصر من جهاد تقليدي إلى جهاد عالمي، أي تحول فكرة الجهاد المشروع من صراع دفاعي عن سكان متأثرين بشكل مباشر في بلد محدد، إلى ممارسة عنف شبه عشوائي يتجاوز حدود مناطق الصراع، يمثله تنظيم القاعدة. ثالثاً: نشأة مذهب جديد من داخل المدرسة السلفية هو السلفية الجهادية التي باتت تعلن تمايزاً سياسياً واضحاً في المواقف عن الأولى، خصوصاً فيما يتعلق بمسألتي النضال ضد الأنظمة الحاكمة في العالمين العربي والإسلامي والصراع مع الغرب. ما يعني أن السعودية كانت قد بدأت تخسر من احتكارها المطلق للخطاب السلفي التقليدي لصالح التيار الجهادي المعولم، والتي كانت القاعدة أيضاً هي وجهه التنظيمي الأبرز.
اشتد هجوم بن لادن بعد حرب الخليج الأولى على المملكة العربية السعودية علناً، واعتبرته المملكة من جانبها أنه يمثل "الفئة الضالة"، فنفته إلى السودان وسحبت منه الجنسية السعودية. كانت خطة القاعدة في العقد الأخير من القرن الماضي تقضي بإفراد أمريكا وحلفائها كهدف رئيس في الصراع المسلح (العدو البعيد)، فيما فضّلت التريث في مسألة المواجهة العنفية مع المملكة العربية السعودية (العدو القريب). لذا، قام تنظيم القاعدة بشن عدة عمليات ضد الولايات المتحدة ومصالحها في منطقة الشرق الأوسط وفي القرن الأفريقي وفي داخل أمريكا نفسها. ففي ديسمبر من العام 1992، قامت القاعدة بأول عملياتها ضد الجنود الأمريكيين في عدن، وهم في طريقهم إلى الصومال للمشاركة في جهود الإغاثة الدولية للمجاعة، في إطار ما سمي "بعملية استعادة الأمل". ثم في العام 1993، أقدمت جهات على اتصال وثيق بتنظيم القاعدة بمهاجمة مركز التجارة العالمي في نيويورك. ثم تلاها في العام 1998 عملية تفجير مبنى سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام. وفي أكتوبر من العام 2000، تم تنفيذ إحدى أكبر عمليات القاعدة ضد سفينة نقل عسكرية أمريكية بحرية USS Cole في ميناء عدن في اليمن. ثم بلغت عمليات القاعدة ذروتها في الحادي عشر من سبتمبر 2001، حين قامت فرق انتحارية باستخدام طائرات مدنية لمهاجمة أبراج مركز التجارة العالمي، ووزارة الدفاع الأمريكية، والكابيتول الهيل. شكلت تلك العملية لحظة فارقة في تاريخ العالم المعاصر، إذ أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش ما أطلق عليه في حينها "الحرب العالمية على الإرهاب"، غزت الولايات المتحدة على إثرها أفغانستان (2001) ثم العراق (2003).
اشتدت الضغوط الدولية على الحكومة السعودية في تلك الفترة من أجل الانخراط في الحرب على الإرهاب واتخاذ إجراءات صارمة ضد التطرف، خصوصاً بعدما تبين أن 15 من الخاطفين من أصل 19 في عملية سبتمبر 2001 كانوا من المملكة العربية السعودية. فأعلن الملك فهد دعوته الشهيرة إلى استئصال الإرهاب، قائلاً إنه محرَّم في الإسلام. اتخذ بعدها أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة قراراً بفتح جبهة قتالية في المملكة العربية السعودية معلناً عن تأسيس فرع للجهاد العالمي في جزيرة العرب، وقد ساعده على ذلك عودة المئات من المقاتلين العرب من أفغانستان في ربيع العام 2002، الذين شرعوا في التحضير لعمليات عسكرية بإشراف يوسف العييري. بعد إعلان الملك فهد وقرار بن لادن، بدأت حرب ضروس بين تنظيم القاعدة والمملكة السعودية، وكانت الفترة الممتدة بين العامي 2003 و2005 هي الفترة الأكثر حلكة في تاريخ المملكة الحديث. قامت خلالها القاعدة باستهداف أجهزة الأمن ومراكز الدولة ومنشآت اقتصادية ونفطية، كما هاجمت أهدافاً ومصالح غربية، وحاولت تنفيذ عمليات اغتيال عدة ضد شخصيات نافذة في الحكومة السعودية. وتزامناً مع تلك الأحداث، صدرت مجلة صوت الجهاد التي كانت تتحدث باسم تنظيم القاعدة في السعودية وتنشر أفكاره، حيث أوكل للقائمين عليها مهمة إدارة المعركة الإعلامية. أما من الطرف الآخر، فقد كانت الأجهزة الأمنية السعودية دائماً ما تنجح في توجيه ضربات قاسمة للتنظيم، وإحباط عمليات عدة كانت تجهز للتنفيذ، كما استطاعت أن تلقي القبض على معظم قيادات أذرع التنظيم الإعلامية في المملكة. وفي حزيران 2003، تمكنت قوات الأمن السعودي من قتل مؤسس تنظيم القاعدة في المملكة يوسف العييري. ثم بعدها بعام واحد، وجهت أجهزة الأمن ضربة قاضية للتنظيم حين تمكنت من قتل الزعيم الأكثر أهمية في قاعدة جزيرة العرب عبد العزيز المقرن وساعده الأيمن فيصل الدخيل في حزيران 2004. كان المقرن آخر زعماء تنظيم القاعدة مهارة وكفاءة، وبموته أخذ تنظيم القاعدة بالانهيار تدريجياً، خصوصاً مع فقدان الدعم والتمويل وعدم القدرة على القيام بعمليات نوعية بسبب إحباط القوات الأمنية لها.
مع مشارف انهيار تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، كان الاحتلال الأمريكي للعراق قد أتاح للقاعدة فرصة إنعاش خطاب الجهاد العالمي مرة أخرى. ومما ساعدها على ذلك مبايعة جماعة التوحيد والجهاد بقيادة أبو مصعب الزرقاوي -الشخصية الأبرز في جيل القاعدة الثاني- لأسامة بن لادن في تشرين الأول من العام 2004، ليتم الإعلان رسمياً عن تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين. وكان بن لادن لا يتوانى عن ربط النظام السعودي في كل الأزمات التي تحدث في المنطقة، متهماً إياه "بتسهيل الاحتلال الصليبي وهيمنة اليهود على المنطقة وتمكين الأمريكان من ضرب المسلمين في العراق وأفغانستان". وبالتشديد على المكانة الخاصة للمملكة العربية السعودية في العالم الإسلامي، باعتبارها أرض مهد الإسلام وقبلة المسلمين، كانت السلفية الجهادية تشدد على مركزية جزيرة العرب في المنظومة الفكرية لأيديولوجيا الجهاد العالمي. وبتطوير الجهاديين لمنظومتهم الفكرية من خلال المدرسة السلفية الجهادية التي انتشر منظروها ورموزها في أماكن مختلفة من هذا العالم، وتطوير قدراتهم التنظيمية من خلال القاعدة وأخواتها عبر خلايا عنقودية تضرب في كل بقاع الأرض، زادت جاذبية هذه الرسالة في الأوساط الشبابية المتدينة المتأثرة بواقع العالم الإسلامي المتأزم. وأصبح العراق في تلك الفترة مقصداً للجهاديين من كل أصقاع الدنيا الذين تدفقوا إلى العراق من أجل الالتحاق بصفوف القاعدة ومواجهة قوات الاحتلال الأمريكي هناك.
أحمد أبو عدس على خط النار:
كانت الدعوة السلفية في لبنان بشقيها التقليدي والجهادي تلقى رواجاً واسعاً في الساحة الإسلامية السنية، إما من خلال جمعيات تربوية وشبكات دعوية ممولة من الخليج، أو من خلال شخصيات علمية درست في السعودية وعادت إلى لبنان، أو من خلال بعض الخلايا والأفراد التي تأثرت بالأحداث وتحاول أن تشق لنفسها طريقاً للعمل الجهادي. كان أحمد أبو عدس ذو الأصول الفلسطينية أحد هؤلاء الذين كانوا من حديثي الالتزام، والمتأثرين بالدعوة السلفية، والذين حاولوا إيجاد منفذ للعمل الجهادي الصرف. ولد أبو عدس في السعودية في العام 1982، وانتقل للعيش في لبنان وهو في التاسعة من عمره. عاش أبو عدس مراهقة صاخبة، ولكنه تديّن بعد ذلك وانتقل من تطرف إلى تطرف نقيض، وهو أمر معهود ومألوف في أوساط الجهاديين تناوله الكثير من علماء النفس والاجتماع والسياسة بالتفسير والتحليل، وخصوصاً في مراكز الدراسات والجامعات الغربية.
كان أبو عدس لاعتبارات عديدة كثير المتابعة وشديد التأثر بما كان يحصل في السعودية: أولها؛ لأن السيطرة الأمريكية على بلاد الحرمين كانت موضوعاً مركزياً في معظم الخطاب الجهادي منذ النصف الثاني من عقد التسعينات الأخير. ثانيها؛ تعارض فكرة وجود قوات أمريكية مع واحدة من أهم المستلزمات الدينية المتعلقة بطهر وحرمة مكة المكرمة والمدينة المنورة. ثالثها؛ تناقض فكرة التحالف مع الأمريكيين ضد دول مسلمة مع جوهر ومضمون عقيدة الولاء والبراء، والتي هي فكرة مركزية في المنظومة العقدية للسلفية الجهادية. رابعها؛ نجاح أجهزة الأمن السعودية في التنكيل بتنظيم القاعدة في جزيرة العرب والخلاص منه إلى حد كبير على أراضيها. خامسها؛ أن أبو عدس كان متأثراً تؤثراً خاصاً ببعض قيادات التنظيم في السعودية وتحديداً بيوسف العييري وعبد العزيز المقرن. يضاف إلى ذلك كله، أن أبو عدس كان سعودي المولد، ولربما بقي هناك شعور قوي مضمر يربطه بمسقط رأسه، وبالتالي تركت تلك الأمور أثراً مضاعفاً عليه. ولذلك كان ناقماً نقمة شديدة على النظام السعودي، حتى أنه كان يرفض حضور بعض الدروس في الجمعيات التربوية السلفية (مثل جمعية الاستجابة وغيرها) لأنها تروج للنظام السعودي بطريقة أو بأخرى ولا يجيز مشايخها الخروج عليه. في مقابل ذلك، كان يحتفظ بالكثير من النشريات والمطويات التي تتضمن تكفير النظام السعودي، وتبرر وجوب الخروج عليه، وكانت تراوده رغبة جامحة في الانتقام لما واجهته القاعدة في المملكة.
ومع أن أحمد أبو عدس كان من أصول فلسطينية، إلا أنه كان أكثر انشداداً وانشغالاً بما يحدث في السعودية للأسباب التي ذكرناها. وقد كان يرفض الانضمام لحركات المقاومة الإسلامية الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي، على اعتبار أنها حركات وطنية، ولا تمتلك مشروعاً إسلامياً متكاملاً يعيد بناء الخلافة الإسلامية ومواجهة أعداء الأمة. كما أن هذه الحركات "لا تحمل العقيدة الصحيحة" أي العقيدة السلفية، وبالتالي لا يمكن أن يكتب على يدها النصر والتمكين. كذلك لم يعن أبو عدس ببداية ظهور حركة جهادية على الأراضي اللبنانية ستعرف لاحقاً باسم فتح الإسلام، كونها منبثقة عن حركة علمانية كانت تربطها علاقات قوية بالنظام السوري، وبالتالي فإن إمكانية اختراقها قد تكون كبيرة من قبل أجهزة الأمن السورية. ويمكن القول، بأن أبو عدس كان يمتلك حسّاً أمنياً ظاهراً، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا الحس دقيقاً أو عالياً.
لذلك كله، فإن ما جاء في تحقيقات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان من استبعاد تام لتورط الجهاديين في عملية الاغتيال، وتبرئة أبو عدس تماماً من العملية، ثم ما جاء على لسان بعض الشخصيات الأمنية الرفيعة المستوى بأن "أبو عدس كان مجرد شاب متدين يمارس عملاً دعوياً ينسجم مع حداثة التزامه"، بحاجة إلى التوقف مطولاً، والعناية أكثر بما نشر عن الرجل من معطيات ومعلومات سواء من أجهزة التحقيق اللبنانية أو وسائل الإعلام التي اهتمت بمقابلة أقاربه وأصدقائه. كما أنه لا يجب أبداً الاستخفاف بما ورد في الشريط الذي صدّره أبو عدس أو من يقف خلفه لقناة الجزيرة غداة تنفيذ عملية الاغتيال، والذي قال فيه: "باسم الله، وللانتقام من أجل الشهداء الأبرياء الذين قتلوا على يد قوات أمن النظام السعودي الكافر أقسمت جماعته على إلحاق العقاب العادل بوكيل ذلك النظام وأداته الرخيصة في سوريا، صاحب المكاسب غير المشروعة، رفيق الحريري". إلا أن ذلك في المقابل، لا ينفي احتمالية أن يكون أبو عدس ومن معه هم مجرد حد السيف الذي يتحكم بمقبضه جهة ما بغية توظيف تداعيات ضرباته في خدمة مصالح معينة في لبنان والمنطقة. خصوصاً، وأن تجارب استخدام الحركات الجهادية أو بعض صنائعها في أمور الأمن والسياسة والإستراتيجيا لا يعد مسألة غير معهودة، ولربما تكون القضية الأفغانية ومحاربة السوفييت هو أكبر وأوضح مثال على ذلك.
في الجزء الثاني من المقال، نتابع: لماذا رفيق الحريري؟ ونستكمل فيه باقي الإجابات عن الأسئلة المطروحة في الرواية المتعلقة بإمكانية تورط الجهاديين في عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، والتي تختلف عن رواية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
"
Related Posts
كاتب فلسطيني