Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

من الأشياء التي كنت أراها لافتةً، تفضيل البعض لأفلام الرعب على تلك الكوميدية مثلاً، فمن يرفض أن يضحك في زمن يملؤه الرعب والخوف؟ أو ما الذي قد يدفع أحد الأشخاص للوقوف أمام جريح إثر حادث سير، ليصوره بدلاً من تقديم المساعدة له؟

حسين مالك عبدالله

متعة المعاناة

"

من الأشياء التي كنت أراها لافتةً، تفضيل البعض لأفلام الرعب على تلك الكوميدية مثلاً، فمن يرفض أن يضحك في زمن يملؤه الرعب والخوف؟ أو ما الذي قد يدفع أحد الأشخاص للوقوف أمام جريح إثر حادث سير، ليصوره بدلاً من تقديم المساعدة له؟

كنت أتصفح موقع اليوتيوب في أحد الأيام، إلى أن وصلت إلى محاضرة لعالم النفس في جامعة ييل، بُول بلوم. عنوان هذه المحاضرة: "the pleasures of suffering - مُتعة المعاناة". كيف يكون الأمر كذلك؟ أنا هنا لا أدعي أني عالم نفس، أنا أحببت فقط أن أكتب عن موضوع وجدته مثيراً للاهتمام محاولاً، بالارتكاز على هذه المعلومات، أن أُفسر بعضاً من ظاهراتنا الاجتماعية.

في كتاب صُور ودموع لمؤلفه جايمس إلكينس، الذي يطلب من الناس صوراً كانت سبباً في بكائهم. المنطقي، أن يرسل أحد صورةً لدمار الحروب، الأطفال الجياع. ولكن، كان هناك صورة لافتة، وهي رسمة لغرفة نوم رجل هجرته زوجته، ويوقول إنه كان وحيداً في بيته، وبكى حين رأى تلك اللوحة، لأن زوجته تركت البيت بعد أن رسمَتْها.

قد تُحركنا الفنون عادةً وتترك في نفسنا أثراً، وهذا ليس محصوراً في فنون يمكن أن تكون مرئية فقط. الأغاني أيضاً والمقطوعات الموسيقية أيضاً يُمكن أن تكون كذلك. قد تجعلنا نبكي، ومع ذلك نبقى نُحبها. وقد نبتعد أكثر لنسأل: لمَ قد نستمتعُ بالأفلام المرعبة، أو الأفلام التي لا تخلو من  التعذيب أو التعنيف.

في كتاب جوناثان غوتشال  يقول: إن القابلية تجاه العنف والرعب ليست حكراً على البالغين، بل هي موجودة عند الأطفال أيضاً، ويستشهد على ذلك بقصص صغيرة كتبها أطفال، يأتي فيها مفردات مثل: قطارات تدهس جراءً، فتاة مُشاغبة تُزج في السجن، أرنب يلعب بالنار..

وفي إحدى التجارب لكيلينغز وورث وغيلبرت، حيث يُطلقان تطبيقاً هاتفيا، يسأل المستخدمين سؤالَيْن: هل هُم مُركزون في ما يفعلونه؟ وإن لم يكونوا كذلك، فهل هم يفكرون في أمور سلبية أم إيجابية؟ وخلصت هذه التجربة إلى نتيجتين: الأولى، أن العقل حين كان من المفترض أن يكون في مكانه الصحيح، كالتركيز في محاضرة جامعية، كان في مكان آخر. والثانية، أن المكان الآخر كان مكاناً يحوي أفكاراً سلبية.

لنذهب أبعد من ذلك، عبارة "مبني على أحداث حقيقية" تكون كافية لنتسمر لساعات أمام التلفاز أو الكتاب الذي نقرأه. وكل شخص منا قد توقف مرة على الأقل كي يشاهد حادث سير. اللافت، أنا نتوقف بتمعن وحماس على الرغم من أنا نعرف أن ما سنراه مؤلم لا محالة.

إحدى الإجابات على هذا الأمر، هي أن شعور ما بعد الألم قد يكون في حد ذاته شعوراً بالرضا واللذة.

في سياق آخر، قد يكون الألم أو المعاناة سبباً في توحيد الجماعة، وهذا يظهر بشكل ديني حسب عالم الاجتماع دوركايم. ومن ناحية أخرى، ففريق رياضة الجو جت سو، يحتفل بترقية أحد أفراده عبر سلخه بحزام الرياضة المذكورة، مما يغذي روح الجماعة. فجماعة آلامها وأحزانها واحدة، هي جماعة مُتحدة.

أما التفسير الأعمق، فسنقسمه إلى نقاط ثلاثة:

  1. المشاعر السلبية ليست بالضرورة مشاعر غير ممتعة:

 فلنفترض أن نمراً يطاردك، الشعور المسيطر عليك الآن هو الشعور بالخوف، إلا أن هذا الخوف ليس ناتجاً عن التجربة نفسها، بل بسبب الخطر الذي قد تتسبب به وهو قد يكون الموت. ولكن، فلنعكس التجربة إلى تجربة خيالية، كألعاب الواقع الافتراضي VR، سنجد أن الأمر قد يبدو حماسياً ومُسلياً.

كذلك الأمر في الماراثون، فكرة التعب والإرهاق الجسدي والعقلي تبدو فكرة سيئة جداً، ولكن لنتخيل نهاية السباق، حيث الجائزة والانتصار، سيتحول شعور التعب والأنفاس المتسارعة إلى مشاعر فرح ولذة خالصة. نستذكر هنا قول شيكسبير: "ليس هناك شيء جيد وشيء رديء، بل تفكيرنا به هو ما يجعله كذلك.

هذا لا يعني أن كل ما هو سلبي قد يكون جميلاً، فعلى سبيل المثال، القرف والغثيان، ليسا أبداً كذلك، ولا لذة مرجوةً في خوضهما. وردت في كتاب دانييل بيرغنير قصة طريفة لامرأة مازوخية تخوض شتى الممارسات وأكثرها ألمـــاً، لكنها ترفض الذهاب لطبيب الأسنان، وتصفه ب"مؤلم جداً". يقترح عليها عشيقها أن تتخيل الموضوع على أنه أحد أنواع الممارسات التي يقومان بها، فترفض، وتقول:"إنه طبيب الأسنان، لا يُمكنني أن أرى الموضوع هكذا." وهذا يجعلنا نلاحظ أن الألم إن لم يكُن مُختاراً، فهو غير مُمتع.  كأن تصدم إحد أصابعك بالطاولة، هذا ألم غير مُخطط له، وهو لا يجلب إلا الألم.

  1. كبشر، نحن نسعى وراء المتعة، ولكن، في الواقع، في كثير من الأحيان، نسعى إلى الألم والعذاب:

يحكي الاقتصادي جورج لوونستاين عن تجربة تسلق المــُرتفعات والقمم الثلجية، وقد استطاع الوصول إلى مذكرات مئات الأشخاص الذين قاموا بتلك المغامرات. ودون استثناء، وصفوا تلك التجارب ب "المريعة" و "السيئة". ويقولون إن كل ما يتخلل تجربة كهذه ليس إلا وجعاً؛ تجمد الأطراف، آلام في الرأس تجعلك غير قادر على الإبصار. هنا، تظن أن وجودك مع مجموعة من الأشخاص تفعلون المهمات نفسها، وتخوضون الآلام نفسها قد يجعل التجربة العامة مُستساغة، ولكن في نهاية المطاف، ستكره كل من كان معك. يلخص تلك التجربة بعبارات: "غير مريحة أبداً، بائسة، ومُرهقة. وعلى الرغم من ذلك، نجد من يحبها، ويعرض حياته للخطر في سبيلها.

إذا أردنا أن نقارب هذا من ناحية السلطة، فإن الروائي جورج أورويل، كان قد اكتشف فهمَ هتلر لهذا الموضوع، إذ يلخص رؤيته: لا يحتاج البشر دائماً إلى الأمن والعمل والنظافة، بل يحتاجون إلى التضحية، والمعاناة، والعُسر. ففي حين عرض الأنظمة الديمقراطية الراحة والبحبوحة لشعوبها، قدم لهم هتلر الخطر، والعذاب، والموت، فخضعوا له واصطفوا وراءه، وهذا يفتح العين الواسعة لتصرفاتنا مع جلادينا. فنحن نخضع لهم، ولا نضع حداً لهذا.

في وقت قد يكون من الأفضل أن نقضيه في التفكير بإنجازاتنا، أو بالتخطيط لأهدافنا من زاوية جميلة، أو التفكير بكيفية تطوير أنفسنا، غالباً ما نرانا نُفكر بالأسوأ، نفكر بالاحتمالات والنتائج السلبية، أو ما يُعرف بسيناريو الحالات الأسوأ. ماذا سيحدث لي لو فقدت عملي؟ ماذا لو تخلى عني شريكي؟ ماذا لو أفلَسْت؟

هذا منطقي كثراً، ويعود تفسيره إلى أن هذه الأمور هي الأمور التي يجب أن نعرفها كي نُدرب أنفسنا عليها إذا لزم الأمر، فالأمور الجميلة، غالباً ما تكون فرحتها آنية، وهي لن تغير شيئاً جذرياً في الحياة. ولكن، تلك السيئة، المحفوفة بالمخاطر، هي التي تتطلب عناءً للتعامل  والتأقلم معها. يقول ستيفن كينغ؛ الروائي الأمريكي:"نخلق رعباً خيالياً، كي نتعامل مع الرعب الواقعي."  لذلك، نشترك في صفوف تُسبب الألم، كصفوف الفنون القتالية، من أجل أن نكون مستعدين لأي خطر مُرتقب.

شكل آخر من أشكال الألم المرغوب. الصعوبة. هناك أنواع عديدة للصعوبة. نحن لا ننكر أنا نميل إلى كل ما هو سهل، ولكن في بعض الأحيان تكون هذه السهولة غير ممتعة. في إحدى الدراسات، قُسمت مجموعة أشخاص إلى فريقَيْن. الفريق الأول يتسلم أدوات ليبنيَ بها شيئاً ما. والفريق الثاني يتسلم ذلك الشيء جاهزاً. وبعد فترة، يُسأل الفريقان: إلى كم من المال تحتاجون لبيع ما بنيتم؟ تنتهي الدراسة إلى أن أولئك الذين بنوا الأشياء، طلبوا مبلغاً أكثر بكثير من أولئك الذين أخذوها جاهزة. وهذا لأنهم "تعبوا" في صناعتها. وليس بالضرورة أن يكون الأمر مادياً، فنحن نستمتع بحل الكلمات المتقاطعة الصعبة وال "puzzle" ولا نحبها إذا كانت سهلة.


3- الأخلاق:

يقول بلوم: إن ما نعرفه عن الأطفال والفئات العمرية الصغيرة، أنهم لديهم القابلية الطبيعية تجاه فعل ما هو أخلاقي، كالمساعدة، ففي دراسة مصورة معروفة، تظهر رجلاً يتظاهر في حاجته للمساعدة، فيأتي طفل ويساعده في ما يفعل.

هناك طرف آخر لهذه الأخلاق، وهي الطبيعة العقابية. انتشرت قصة لامرأة في لندن. باختصار، كان هناك رجل يحتفظ بقطة، ومن المعتاد أن تلك القطة تدور في الشوارع نهاراً وتأتي ليلاً، إلا أنها لم ترجع ذات ليلة. قام الرجل لرمي النفايات ليجد قطته في المــُستوعَب، وبعد فتح الكاميرات، تبين أن امرأةً رمتها هناك. القصة ليست هنا، فبعد أن تم العثور على تلك المرأة، اضطرت للخروج من منزلها تحت حماية الشرطة، بعد التهديدات التي تلقتها بالقتل. تظهر هنا هذه الطبيعة العقابية، فالبشر عندهم الشراهة لتعذيب كل من هو "سيئ" في نظرهم وشراهة الانتقام منه.

فإن كنا نحب الصعوبة ونحب الأخلاق، فمن الممكن أن يجمعنا ما يسمى "الصعوبة الأخلاقية". فنحن أكثر قابلية لجمع المال للسرطان، عبر تنظيم ماراثون، أي ما يُعتبر شاقاً، بدلاً من تنظيم حفلة عشاء، حتى ولو كانت كمية المال نفسها. وكأن الناس يقولون: إذا أردْت أن تحظى بالاحترام، فعليك أن تمر بقدر كاف من الصعوبة والألم.

كل هذا وجدته مثيراً للاهتمام، وغير تقليدي، وقد يعكس الكثير من الظواهر في مجتمعنا، فبعد قراءتي عن هذا الموضوع، لم أعد أستغرب من أولئك الذين يتمنون أن يعود صدام حسين ويترحمون على أيامه، أو أولئك الذين يقولون نحن شعب لا يُحكم إلا بحذاء. تبقى الإشكالية مطروحة بلا إجابة واضحة.

 

"