في تشرين الثاني/ كانون الأول (نوفمبر/ديسمبر) عام 2011، وتحت عنوان «اللامساواة والانحدار الأميركي» صدرت دراسة في دورية «الفورين أفيرز» تتحدث عن «المواطن العادي»، والذي، وفقاً للدراسة، يعيش في أميركا خارج دوائر النخبة وشبكات المصالح المالية والكتل التصويتية المؤثرة.
ديمقراطية وهم الحرية
«إنني أؤمن أنه لشيء طيب أن يحدث تمرد صغير من وقت لآخر.. إنه علاج ضروري لصحة الحكومة. وإني لأعوذ بالله أن تمر علينا عشرون سنة بدون وقوع تمرد.. لا بد أن تروى شجرة الحرية من وقت لآخر بدماء الطغاة والوطنيين.. فتلك الدماء هي سمادها الطبيعي»
[توماس جيفرسون]
***
في تشرين الثاني/ كانون الأول (نوفمبر/ديسمبر) عام 2011، وتحت عنوان «اللامساواة والانحدار الأميركي» صدرت دراسة في دورية «الفورين أفيرز» تتحدث عن «المواطن العادي»، والذي، وفقاً للدراسة، يعيش في أميركا خارج دوائر النخبة وشبكات المصالح المالية والكتل التصويتية المؤثرة. إنه المواطن الذي يعيش بذراعه وقدرته الذاتية وعلمه - كثر أو قل - في الجسم الاجتماعي الأميركي. هو الذي يرغب في ألا يكون ترساً في ماكينة يصب إنتاجها في أيدي القلة الثرية، وأن يعيش آمناً ومحصناً من الأزمات المالية التي لا يصنعها هو ولكن يدفع ثمنها دائماً.
هذا ببساطة هو «المواطن» الذي دفع «ترامب» إلى مقعد الرئاسة، هذا «المواطن» الذي خايلته الألوان النقدية، اليمينية الشعبوية على طريقة «ترامب»، أو "اليسارية" - مجازا - على طريقة «ساندرز». هذا المواطن الذي اضطره الظرف التاريخي - السياسي - الاقتصادي لتصديق ثورية رئيس يميني! الظرف الذي جعل من «ترامب» هذا المتمرد على المؤسسة الأميركية وأنماطها وقواعد اللعب الخاصة بها. ولعل في تاريخ التجربة الأميركية ما يستحق تسليط الضوء عليه، علنا نجد في ثناياه ما يفيد في قراءة واقع اليوم وهذا السجال المحتدم حول «الحالة الأميركية» وبداخلها وبين مكوناتها.
سنة 1676 ونتيجة خلاف حول طريقة التعامل مع السكان الأصلين (الهنود الحمر) للحصول على الأراضي الواقعة غرب فرجينيا، تمرد «ناثانيال بيكون» على السلطات، لم يكن بيكون - ابن الطبقة الغنية - متحمسا لإنصاف الفقراء بقدر حماسه للقضاء على الهنود، لكنه أصبح رمزا للتمرد على «المؤسسة». وبدأ في تشكيل قوات غير نظامية لشن غارات على الهنود والتوسع غرباً، عندها أعلن حاكم الولاية أن بيكون متمرداً. تنبهت السلطات إلى العدد الكبير من الخدم الذين شاركوا في التمرد وأصدر المشرعون في فرجينيا عدة قوانين لمعاقبتهم مخافة تكرار مثل هذا التمرد.
لم يكن الخوف من التحالف بين العبيد السود والهنود يمثل هاجساً بقدر الخوف من التحالف بين فقراء البيض والعبيد السود ــ يقول «هوارد زن» إن هذا ينفي القول بالعداء الطبيعي بين الأعراق. خاضت السلطات حرباً طويلة ضد «الجاذبية الجنسية» بين البيض والسود والتي نتج عنها إنجاب أطفال مخلطين بكثرة، مما دفع هيئة المحلفين بكارولاينا الجنوبية في العام 1743 بتجريم مخالطة البيض بالسود، وعملت الحكومة على إبقاء الأطفال المخلطين لدى الأسر السوداء وذلك لكي تبقي على السكان البيض أنقياء وتحت سيطرتها. قبلها بعقدين وفي سنة 1721 تلقت الحكومة البريطانية تقريراً عن ثورة قام بها عبيد كارولاينا الجنوبية، وكانوا قاب قوسين من النجاح. وناشد التقرير الحكومة البريطانية بضرورة تسهيل استضافة عدداً أكبر من «الخدم البيض» لمواجهة التهديدات، وذلك قد يفسر قيام البرلمان البريطاني قبلها بسنوات بسن قانون يجعل من ترحيل المجرمين إلى العالم الجديد عقوبة! وذلك يفسر إذا ما عدنا إلى تمرد بيكون العفو عن البيض الذين شاركوا في التمرد. وبذلك تم ترحيل عشرات الآلاف إلى فرجينيا وميرلاند وغيرها. بعدها أصبح مسموحاً للخدم البيض الالتحاق بالجيش كبدلاء للأحرار، وتأسست دوريات لمراقبة العبيد ومواجهة أخطارهم، وكانت تتشكل من الفقراء البيض مقابل مكافآت مالية. ومن هنا بدأت العنصرية تتحول إلى شيء عملي يدر مكاسب وأموال. معظم البيض الذين تم توظيفهم في هذه المهام كانوا يُعاملون بفوقية من الأغنياء البيض (الأنجلوسكسون)، وكانوا في معظمهم فقراء قبل جلبهم إلى العالم الجديد، ولاحقاً انضم إليهم كثير من الأيرلنديين والألمان. حول هذه التركيبة يقول «إدموند مورجان» في دراسة له عن العبودية: العنصرية ليست شيئاً طبيعيا، لكنها تأتي نتيجة الاحتقار الطبقي الذي يمثل وسيلة فعالة للسيطرة، فلو اتحد المُحبطون البيض مع العبيد اليائسين وجمعت بين الطرفين قضية واحدة، لكانت عواقب ذلك أسوأ من أي شيء، لقد كان حل هذه المشكلة في رأي الحكومة شيء واضح وإن سُكت عنه وتم إقراره على مراحل، العنصرية والفصل بين الخطرين من الأحرار البيض والعبيد السود، وذلك عن طريق التعالي والاحتقار.
في واقع يمور بتناقضات وتقاطعات، بأجناس تشارف على الانقراض وأخرى تؤسس لوجود أبدي وتعيد تشكيل وبناء هذا الواقع بما يتناسب مع طموحاتها، لم يكن ليتم كل ذلك فقط بالقوة المطلقة والسيطرة، لكنه كان بحاجة لحيلة وذكاء، كان بحاجة لطبقة تعمل كمصدات وحواجز ضد طبقات أقل تعلن التمرد والثورة من حين لآخر، بل الأهم من ذلك، أن تكون بمثابة واجهة مشرقة لامعة للعالم الجديد. سنة1786 أصدر مجلس مدينة نيويورك قراراً يقضي بأنه غير مسموح لأسود أو لعبد بالعمل كحَمّال لأي بضائع تدخل إلى نيويورك أو تخرج منها، كما حمت المدن الجنوبية الحرفيين والتجار البيض من منافسة السود، ففي العام 1764 حرّم المجلس التشريعي لكارولاينا الجنوبية على سادة مدينة شارلستن توظيف السود كحرفيين أو في أي عمل يدوي، بالتالي سيجد كثيرون مصلحتهم في مثل هذه التشريعات والقرارات، وبدونها ستحتدم المنافسة وربما تقل الفرص أو تنعدم، وبذلك تصبح تراتبيتهم في المجتمع متوقفة على دفع غيرهم إلى الأسفل، ولن يتم ذلك إلا بالصمت عن انتهاك أو بالترحيب بسياسات وقرارات ودعمها والتسويق لها ولصانعيها. وبحكم الزمن والمرونة التي تتطلبها المستجدات ستجد الجميع قد تحلى "بالحكمة"، ستجد بعض السود انخرطوا في النظام وسوقوا له، وستجد بعض البيض قد اتسع صدرهم لدرجة القبول برئيس أسود، وعندها يتحول «أوباما» ضمنا إلى طبقة وسطى بيضاء.
عندما تخاطب النخب الحاكمة "الشعب"، فهي تعني الطبقة الوسطى، وهذا المصطلح (الطبقة الوسطى) قد أخفى حقيقة أن هذا البلد لا يعدو كونه مجتمع طبقة وسطى تحكمه طبقاته العليا. حول هذه الفكرة يقول «هوارد زن»: عندما تتحدث النخبة إلى الناس، عن "حريتنا" و"ملكيتنا" و"بلدنا" فهي تتحددث إلى الطبقة الوسطى حصراً، لا إلى غيرها حتى وإن بدا غير ذلك». ولكي تستمر هذه النخبة في الحكم، فعليها تقديم بعض الامتيازات للطبقة الوسطى، ليس على حسابها بالطبع، لكنه على حساب الفقراء من السود والبيض. في ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر استطاعت النخبة الحاكمة من خلال لغة الحرية والمساواة أن تجمع حولها عدداً كافياً من البيض للثورة ضد الإنجليز، لكن ذلك بالطبع لم ينهي العبودية والظلم كما أنهى الوجود البريطاني.
التاريخ الأميركي حافل باستغلال النخب الحاكمة لكل حدث، تمردات أو ثورات (عنصرية أو طبقية)، فدائماً ما تقوم الطبقة الحاكمة بتسخير طاقة الطبقة الدنيا واستغلالها لتحقيق أغراض لا تعود بالنفع على هذه الطبقات (الثائرة والمتمردة). إبان الوجود البريطاني استغلت النخب المٌستَبعدة من دوائر الحكم القريبة من إنجلترا بعض التمردات والتظاهرات والمظالم، ومن خلال كتاباتهم وخطبهم بلوروا رأياً للطبقة العاملة، ودعوا العامة إلى التحرك وشكلوا سلوكهم، وبالطبع كان ذلك لخدمة مصالح هذه النخب وتحسين مواقعهم في معادلة السلطة. في فترة من الفترات كان لدى مالكي العبيد شك في أن البيض من غير مالكي العبيد كانوا يشجعون العبيد على العصيان والتمرد، لا تعاطفاً معهم ولكن كراهية في في الأثرياء من أصحاب المزارع وسخطاً على الفقر الذي كانوا يعيشون فيه. وكان البيض في بعض الأحيان طرفاً في أحداث التمرد، وذلك كان يشعل مخاوف الأثرياء والنخبة الحاكمة. لا ينبغي تقييم ما يحدث في أميركا بمعزل عن تاريخ هذه التجربة، ولا ينبغي اعتبار الإمبراطورية محصنة من دورات التاريخ، وضع الأمور في نصابها الذي لا يجافي العقل وبالوقت نفسه لا يلجم الطموحات والأمنيات مفيد لمن يحاول التحقق من موقعه. ربما مثّل وجود «ترامب» في الحكم للنخب الحاكمة ما مثّله «ناثنيال بيكون» في حينه واعتُبر متمرداً على المؤسسة، أقول ربما. لكن الأكيد أن نظام الحكم الأميركي يتمتع بما يمكن تسميته "ديكتاتورية وهم الحرية"، هذا النظام القائم على وجود حزبين يعطي الناس فرصة الاختيار في أوقات التمرد على القائم ويسمح لهم باختيار الأكثر "ديمقراطية"، أو كما قال حكيم: الاختيارات في الديمقراطيات الغربية باتت تؤدي إلى نفس نتيجة اختيارك بين مساحيق الغسيل، تماماً كالفرق بين الآريال والپرسيل.
"Related Posts
كاتب مصري