يمكن تصنيف السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا اليوم في خانة "الاغتيال السياسي للأمم"، فالسيطرة على مياه اليرموك، لا تهدد دمشق وعمّان فحسب، بل تهدد أصل وجود الشعب السوري جنوبي البلاد، وتنذر بانزياحات سكانية تهدد دمشق سياسياً على المدى البعيد
"إسرائيل" وسوريا... والماء ثالثهما
"إن الحياة الاقتصادية لفلسطين، مثل أي دولة شبه جافة، تعتمد على إمدادات المياه المتاحة. لذا، من الأهمية بمكان ليس فقط تأمين جميع موارد المياه التي تغذي البلاد، ولكن أيضاً القدرة على الحفاظ عليها والتحكم بمصادرها. ويُعتبر جبل الشيخ الأب الحقيقي لـ"مياه فلسطين"، ولا يمكن فصله عنها دون الإضرار بجوهر حياتها الاقتصادية."ا
من بيان المنظمة الصهيونية العالمية في مؤتمر باريس للسلام (3 شباط/ فبراير 1919).ا
***
لعبت الموارد المائية دوراً محورياً في الاستراتيجية الصهيونية منذ بداية تفكير الصهيانة بفلسطين.[1] في البدء عانى الصهاينة من مشكلة تحديد المنطقة الجغرافية التي سعوا لجعلها دولة يهودية. فخريطة عام 1919 التي قدمتها المنظمة الصهيونية العالمية في مؤتمر باريس للسلام لم تكن مقتصرة على ما أصبح في النهاية حدود الانتداب البريطاني الرسمي (1920-1948). بل عرّف الصهاينة فلسطين في تلك الخريطة من خلال الموارد المائية الموجودة في تلك المنطقة المزمع قيام الدولة اليهودية عليها، وعلى ما حولها. تضمنت خريطتهم كل أراضي فلسطين الانتدابية، بالإضافة إلى هضبة الجولان وجنوب لبنان (وصولاً حتى صيدا) وجزءاً من الضفة الشرقية لنهر الأردن ومساحات واسعة من سيناء، آخذين في الاعتبار كل الموارد المائية والخزانات الجوفية المحيطة. بالنسبة للصهاينة الأوائل، شكلت تلك المنطقة جغرافيا الحد الأدنى اللازم "مائياً" لاستيلاد دولة قادرة على تطوير قاعدة اقتصادية صناعية وزراعية، توفر نمط حياة مقبول نسبياً للمهاجرين اليهود.ا
فترة الانتداب، قدم الصهاينة العديد من المقترحات المتعلقة بالمياه بهدف السيطرة على الموارد المائية. كان الثابت لدى الصهاينة هو ضرورة توسيع نطاق مياه الري من نهر الأردن إلى النقب، وهي منطقة كان يُتوقع أن تكون جزءاً من الدولة اليهودية المستقبلية. عام 1944، قدم الصهاينة خطة وضعها والتر كلاي لودرميلك، والتي دعَت إلى ري وادي الأردن، وتحويل مياه نهر الأردن واليرموك إلى صحراء النقب في الجنوب واستخدام نهر الليطاني في لبنان لمشاريع في المنطقة التي ستصبح "إسرائيل". ومع ذلك، ظل كل شيء معلقاً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.ا
بعد حرب عام 1948، أصبحت قضية المياه في وادي الأردن محوراً للصراع بين "إسرائيل" والدول العربية المجاورة. حاولت "إسرائيل" تحويل مياه نهر الأردن إلى صحراء النقب مما أثار احتجاجات عربية. عام 1951، تحركت "إسرائيل" باتجاه المنطقة منزوعة السلاح مع سوريا وحاولت تثبيت وجودها في منطقة بحيرة الحولة على منحدرات هضبة الجولان. قدمت سوريا شكوى إلى الأمم المتحدة، وبضغط من الولايات المتحدة، توقفت العملية مؤقتاً حتى عام 1958.ا
عام 1953، قدمت إسرائيل خطة مدتها سبع سنوات. ركزت الخطة على تحويل مياه نهر الأردن جنوباً إلى صحراء النقب وتطوير شبكة مياه موحدة وشاملة ضمن مشروع "الناقل الوطني للمياه". استندت الخطة بشكل كبير إلى خطة لودرميلك، التي ظلت الإطار العام لسياسة "إسرائيل" المائية.ا
في الفترة ما بين عامي 1953 و1955، أرسلت الولايات المتحدة السفير الخاص إريك جونستون للعمل على وضع خطة مياه مقبولة لتل أبيب وللعرب. عُرفت الخطة باسم "خطة جونستون" أو "الخطة الموحدة لوادي الأردن". وبعد عامين من المفاوضات وافق العرب في على تقسيم المياه بين الدول المتشاطئة، على الرغم من حصول "إسرائيل" على أكثر من "حصتها المفترضة". ومع ذلك وقبل أن يتم تنفيذ الخطة، أعلن وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس تصريحاً أعاد تأجيج مخاوف العرب، إذ ربط دالاس بين المشروع وبين مسألة اللاجئين الفلسطينيين. دالاس أضاف أن "مشروع تطوير المياه الإقليمي سيضمن حدوداً سياسية جديدة ودائمة تحل محل خطوط الهدنة القديمة". عزز دالاس بذلك رفض العرب الاعتراف بـ"إسرائيل" أو الشروع في أي شكل من أشكال التعاون معها. وانتهى النقاش حول المشروع في الكنيست في تموز/ يوليو 1955 دون تصويت.ا
وبالرغم من معارضة جامعة الدول العربية للتصديق على الخطة في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 1955، إلا أن الدول العربية التزمت بالتفاصيل الفنية للخطة دون تقديم موافقة رسمية عليها.[2] فاتفقت "إسرائيل" والأردن على التعاون فيما بينهما وفقاً لتخصيصات المياه بموجب خطة جونستون. مقابل مساعدة الولايات المتحدة في تمويل مشروع الناقل الوطني الإسرائيلي وتقديم واشنطن تمويلاً أمريكياً لمشروع قناة الغور الشرقية الرئيسية للمياه في الأردن.ا
عام 1967 احتلت "إسرائيل" ما تبقى من فلسطين وهضبة الجولان الغنية بالمياه (حيث منابع نهر الأردن) وسيناء. واعتمدت سياسة مائية قائمة على أوامر عسكرية (رقم 92 عام 1967، و291 عام 1968) سمحت لها باحتكار كامل المياه ومنع الفلسطينيين من حفر أي من الآبار الجديدة أو إصلاح تلك القائمة.[3] ومع ذلك يمكننا ملاحظة السعي الإسرائيلي لزيادة حصة الكيان من المياه الإقليمية طيلة هذه السنوات.ا
واقع الأمر، كانت "إسرائيل" ترى في المياه مجالاً حيوياً للضغط السياسي والتفاوض مع "جيرانها" العرب. بإمكاننا لحاظ المسألة بشكل واضح في الملحق الثاني لمعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية عام 1994. فقد جرى الاتفاق على تقسيم كميات المياه فيما يتعلق بنهري اليرموك والأردن والاحتياطيات الجوفية لوادي عربة، بما يخدم المصلحة الإسرائيلية أولاً، ومن خلال التزام "إسرائيل" بنقل نحو خمسين مليون متر مكعب من المياه المحلاة سنوياً من بحيرة طبريا إلى عمان عبر قناة الملك عبد الله. ومع علم المفاوض الإسرائيلي لحاجة الأردن المتزايدة من المياه، إلا أنه أبقى الباب مفتوحاً لربط الاحتياج المتزايد بمحادثات أخرى مستقلة مع ما يعنيه الأمر من ضغوط كبرى على عمان. وقد تجلت تلك الضغوطات بشكل واضح وصريح بين عامي 2019 (بعد استعادة الأردن منطقتي الباقورة والغمر) و2021 تاريخ توقيع يائير لابيد (بوصفه وزير خارجية الكيان) وأيمن الصفدي وزير الخارجية الأردني اتفاقاً جديداً تزوّد "إسرائيل" بموجبه الأردن بخمسين مليون متر مكعب من المياه "المشتراة" مقابل رفع سقف صادرات الأردن إلى السوق الفلسطيني من 160 إلى 700 مليون دولار سنوياً.[4]ا
"إسرائيل" اليوم والمياه السورية
لا يمكن لقارئ خارطة التقدم الإسرائيلي في سوريا، إلا أن يلحظ "ارتباطاً ما" بين التقدم الإسرائيلي ومسألة المياه السورية. ولعل الفقر المائي الذي تعاني منه دمشق، سيكون مدخلاً لأي مراقب في محاولة تلمس رابط ما بين التقدم الإسرائيلي ومسألة المياه. فمع سقوط نظام البعث في سوريا، أقدمت القوات الإسرائيلية على احتلال ستة أنهار ومسطحات مائية في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2024، أبرزها: مجرى نهر اليرموك، سد الوحدة (أحد أهم مصادر المياه والطاقة في سوريا والأردن)، سد المنطرة وبحيرة الصمدانية (شريان الحياة لمحافظة القنيطرة)، والتي تشكل بمجموعها نحو 30% من إمدادات المياه في سوريا، و40% من إمدادات المياه في الأردن.[5]ا
كما استولت "إسرائيل" أيضا على تسعة سدود خارج المنطقة العازلة (في محافظتي القنيطرة ودرعا) منها: سد رويحينة، سد كودنة، سد بريقة، سد غدير البستان، سد جسر الرقاد، سد شبراق، سد سحم الجولان، سد عابدين، وسد الوحدة. وبسيطرة تل أبيب على كل هذه السدود فإن 90% من إمدادات المياه للجنوب السوري، تكون قد أمست تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي.ا
يمكن تصنيف السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا اليوم في خانة "الاغتيال السياسي للأمم"، فالسيطرة على مياه اليرموك، لا تهدد دمشق وعمّان فحسب، بل تهدد أصل وجود الشعب السوري جنوبي البلاد، وتنذر بانزياحات سكانية تهدد دمشق سياسياً على المدى البعيد. إن سيطرة "إسرائيل" على هذه الموارد مضافاً لمخاطر التغير المناخي (يُتوقَّع أن تزداد موجات التصحر في بلاد الشام بمعدل موجة كل خمس سنوات) وانخفاض تدفق نهر الفرات (بنسبة 40% تقريباً مقارنة بتدفقه عام 1972)، فضلاً عن ضخ 34 مليون متر مكعب من المياه الجوفية، هو أمر يتجاوز بكثير كمية المياه المتجددة التي يمكن أن تعوض الفارق،[6] وهو أمر خطر وتتجاوز مضاره بكثير كلفة المواجهة المباشرة اليوم لمواجهة التوغل الإسرائيلي في سوريا.ا
Related Posts
صحيفة الخندق