اليمنيّون بنّاؤون أي أنهم أصحاب حرفة في البناء، عرف اليماني كيف يُخلّد مبانيه، عرف سرّ التّراب فمزجه بالماء، وضع القياس فشيّد البنيان. هكذا ببساطة ودون خوف عليها جعلها تواجه العوامل الطبيعة فأدهشت العيون المُحبة للفن اليمني العريق الذي يسبق بإتقانه كل الحضارات.
حرب الثّقافات؟
تُعتبر بلاد اليمن بحسب الكتب التّاريخيّة المختلفة وما توصّل له العلم مُؤخّراً الموطن الأول للجنس البشري على الأرض ونقطة التّجمع والانطلاقة الأولى للهجرات البشريّة. هي أكثر البلدان حفاظاً على تُراثها الحضاري في ظل كل التحدّيات التي مرت وصولاً للعدوان السعودي الأخير الذي لم تسلم آلاف الأرواح من القتل وكثير من المناطق الحيويّة كالمطارات ومحطات الكهرباء والموانئ والمصانع من القصف بل امتدّت لتطول المعالم الأثرية التي تعرّضت لعمليّات النّهب والتّدمير، فقد تمّ إصابة وتدمير حوالي 274 موقع أثري، و1413 مسجد كما 367 منشأة سياحيّة والعدّ مستمرّ، بالرّغم من كل توصيات "اليونيسكو" المتواصلة بضرورة الامتناع عن استهداف التّراث الثقافي الفريد للبلاد إلا أن العدوان لم يتوانى عن استهداف أهم المعالم الأثرية في محاولة للقضاء على الإرث الثّقافي اليمني، وإخفاء هوّيته العريقة ومعالمه الفريدة، التي تعتبر شهادة على التاريخ والقيم المشتركة للبشرية في مدن يصل عمرها إلى آلاف السنين، وفي ظل غياب الرّقابة الدّولية على المجازر البشرية والتّدمير الذي يمارسه العدوان خلال 6 سنوات الماضية يبقى السؤال ما كلّ هذا الإصرار على اليمن تحديداً؟!
المعادلة الصعبة والرّقم الذي لا يُكسر:
توصف الحضارة اليمنيّة بأنها حضارة الطين وذلك لقدرة الإنسان اليمانيّ الذي استطاع ومنذ القدم أن يستغلّ ويتكيّف مع تُراب أرضه، ويُهندس روائع فنون العمارة الطّنيّة الجميلة التي تُجسّد قدرته على الخلق والإبداع. هي ثاني ميناء عالمي، أول ناطحات للسّحاب، بلدُ المعجزات وبلد الإيمان التي اعتنقت اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، وفيها إحدى أهم وأجمل جزيرة بالعالم "سوقترى". وتُعدّ صنعاء عاصمة اليمن الموحّد، المثل الأروع لمثل هذا التّراث، فهي المتحف المفتوح الغنيّ بمقتنياته الطبيعيّة، المعماريّة والفنّية: منازله، مساجده، شوارعه، قمريّاته، قلاعه، قصوره والكثير الكثير، وفوق هذا وذاك مجتمعه المتميّز الأصيل التي تشهد له في ذلك حضارته السّبئيّة، المعينيّة، الحِميريّة، القتبانيّة، الأوسانيّة وجماع ذلك كلّه حضارته الإسلاميّة
للوهلة الأولى يبدو أن اليمن استمرارللصّحراء الموجودة في معظم شبه الجزيرة العربية لكن في الواقع مناخها مختلف تماماً، ويرجع ذلك لارتفاعها حيث تجد فيها أعلى جبال شبه الجزيرة العربية التي يصل ارتفاعها إلى 3720 متراً ووديان كبيرة يزيد عمقها عن 2000 متر تحيط بها الجبال العالية. بعبارة أخرى يُحدَّد موقع اليمن ضمن المنطقة المداريّة المُتميّزة بالمناخ الجافّ لكن لولا وجود التّباين في التّضاريس لأضحت ضمن الصّحاري المداريّة الحارّة.
لم يُخلق مثلها في البلاد
ذُكرت اليمن في الكثير من الكتب القديمة والتّاريخيّة، منها التوراة وكتب التّاريخ الإغريقي والرّوماني ووصفت فيها في أدبياتهم "باليمن السّعيد" أو "العربية السعيدة" ولم توصف أي أرض في الدّنيا بهذا الوصف لتمتّعها بوفرة المياه والخضرة ولطبيعتها الخلاّبة ولأرضها الخصبة؛ كذلك تُعتبر أرض العرب الأولى، فالشّعب اليمني هو أصل الجنس العربي، واليمنيّون أوّل من تكلّم باللّسان العربي، حيث أن قبائل العرب الشّهيرة مثل عاد وثمود، طُسُم، جُريس، جُرهم..التي انتشرت في الجزيرة العربية، العراق، الشّام، مصر، شمال أفريقيا والقرن الأفريقي. وملوك اليمن هم أول من لبس التّيجان وأشهرهم الملكة بلقيس التي ورد ذكرها في سورة سبأ. وهناك العديد من الشواهد التي تُرجّح أن ذي القرنين الذي ورد ذكره في القرآن الكريم كان أحد ملوك حمير ولم يكن أحد في العالم وقتئذن يضيف كلمة "ذو" في تسمية الأشخاص والمناطق غير العرب، وبالتحديد أهل اليمن، وهي أسماء وألقاب اختصّ بها ملوك اليمن بحسب معاجم اللغة العربية وتعني "الصاحب".
لا يمكن مقارنتها إلا بالجودة الخاصّة لمدينة البندقيّة
اليمنيّون بنّاؤون أي أنهم أصحاب حرفة في البناء، عرف اليماني كيف يُخلّد مبانيه، عرف سرّ التّراب فمزجه بالماء، وضع القياس فشيّد البنيان. هكذا ببساطة ودون خوف عليها جعلها تواجه العوامل الطبيعة فأدهشت العيون المُحبة للفن اليمني العريق الذي يسبق بإتقانه كل الحضارات.
مدينة صنعاء المُسوّرة في جنوب شبه الجزيرة العربيّة كانت مُؤهولة بشكل مستمر لأكثر من 2500 عام. هي واحدة من أقدم مدن العالم الباقية، ويمكن القول أنها أطول مدينة مأهولة بالسّكان في العالم، تمّ ترشيحها لتكون من عجائب الدنيا السّبع الجديدة من قبل صانع الأفلام السّويسري " برنارد ويبر". تقع في الإقليم الأوسط من اليمن ولذلك يعتبرها الهمداني- مؤرخ اليمن- بمثابة أمّ اليمن وقطبها حيث تعتبر واحدة من أقدم المواقع التي غرست فيها بذرة الاستيطان الحضري العريق وقد بدأ الوجود الحضري فيها منذ ما قبل الميلاد بعدة قرون.
أمّا رونالد لوكوك في كتابه "مدينة صنعاء القديمة المسوّرة" فيقول بأنّ هذه المدينة القديمة تتمتّع بميزة فريدة في اليمن وفي العالم لا يمكن مقارنتها إلا بالجودة الخاصّة لمدينة البندقيّة، أي أن قيمتها لاتكمن في ميزة المباني الفرديّة، على الرّغم من أهمّيتها، بل في الانطباع الذي لاينسى الذي تركته في الجميع، فهي مدينة كاملة من المباني الرائعة التي تتّحد لتخلق تأثير حضري ساحر وجمال غير عادي، إذ اشتهرت ذات يوم باسم " لؤلؤة العرب".
عُرفت بأرض القصور فأول قصر في العالم ما يُعرف "بكنز اليمن المفقود" أو قصر غمدان الذي يتكوّن من 20 طابقاً ونجد ذلك في الأبيات الشعرية التي نظّمها الهمداني ونصّها كما ذكره غيره من المؤرخين. ويقول هذا الأخير في موسوعته الإكليل أن أول من بناه هو سام بن نوح بعد الطوفان الذي عمّ الأرض جميعاً. كانت هذه المدينة تضم 6500 منزل البرج كما وصفه لوكوك، يغلب عليه الطابع المربّع الذي يثير إعجاب الزائر بارتفاعه حيث يتكوّن من خمس إلى تسع طبقات حسب الحالة الإقتصادية لصاحب المنزل، هذا وقد انعكس تراثها الدّيني والثّقافي في 106 مسجداً و12 حماماً (حمامات عامّة) تمّ بناؤها قبل القرن الحادي عشر.
كانت البيوت اليمنيّة مبنيّة من الطّوب المحروق المصنوع يدوياًّ، ومزيّن بالجبس والحجارة المكسوّة والقمريّات حيث شكّلت مجموعة معماريّة استثنائيّة. تمّ بناء منزل البرج في صنعاء عادةً لعائلة واحدة كبيرة تضمّ في الغالب جيلين أو حتى ثلاثة أجيال تعيش معاً، وقد تطلب ذلك تصميم المنزل وظيفيّاً بهيكليّة تسمح بالتّوسع الذي يأخذ عادة اتجاهاً رأسيّاً ليتوافق مع النّمط الحضري للمدينة. ولتحقيق هذا الهدف تمّ تزويد المنزل بدرج يتمّ وضعه حيث يمكن أن يخدم جميع المناطق في مختلف الطّوابق مع عدم إعاقة نموّ المنزل في المستقبل.
غالباً ما يكون الطابق الأرضي بارتفاع طابقين ويستخدم لحفظ الحيوانات وتخزين الأخشاب، أمّا الطابق الأوّل فيُستخدم لتخزين الحبوب والأطعمة، فكان هذا التّرتيب لأن منزل البرج لا يتعرّض للشّمس على ارتفاع منخفض. يليه الطابق الثّاني الذي يوفّر مساحة لاستقبال الضّيوف والطابق الأوسط يضمّ غرفة عائليّة رئيسيّة تُسمّى الديوان، والتي يمكن استخدامها أيضاً للمناسبات. أمّا الطوابق العليا فللسّكن وتضمّ غرفاً غير محدّدة الوظائف لاستخدامها المرن في أي تبدّل وظيفي إن للأكل أو النّوم أو المهام المنزليّة، ما ينعكس في غياب الأثاث المُرهق لهذه المساحات. كذلك تحتوي الطوابق العليا على غرف للاستمتاع بالمناظر البانورامية للحدائق وأفق المدينة والجبال، حيث كانت تحتلّ الحدائق الحضاريّة لمدينة صنعاء القديمة المرتبة الخامسة على مساحة المدينة.
تمّ تصميم منزل البرج التقليدي في صنعاء استجابة للاحتياجات الاجتماعية والثقافية والبيئية. كما نجح شكله العامودي بنسبته النحيلة على توفير اتصال اجتماعي عالٍ مع المجتمع القريب من حوله مع الحفاظ على الخصوصية والأمان العاليين لأعلى مستويات المعيشة حيث تتّجه أماكن المعيشة باتجاه الجنوب للاستفادة القصوى من شمس الشّتاء وللهروب من شمس الصّيف أيضاً التي تضرب الواجهات الشّمالية، وهي ظاهرة تحدث فقط في فصل الصّيف في مواقع قربية من خط الاستواء، مثل صنعاء.
وتُعدّ واجهات عمائر مدينة صنعاء متشابهة في النّسق والهندسة لتخلق جمال وروعة ما لم يوجد مثله في المدن العربية والاسلاميّة الأخرى، وهذا التّشابه يرجع إلى كون الواجهات ذات وظيفة معماريّة وفنّية، تُعبّر تعبيراً حقيقيّاً عن الوظائف المتنوّعة التي أُعدّت من أجلها كوظيفة النوافذ الوهميّة التي لجأ إليها المعمار اليمني لتبدو من الخارج على هيئة نوافذ حقيقية خاصّة في الطوابق المخصّصة للنساء كنوع من التّناسب والتّماثل بين الواجهات التي تضمّ خليطاً عجيباً من أشكال الفتحات والنّوافذ الصّغيرة والكبيرة والمستطيلة والدّائريّة. نُفّذت بطريقة محبّبة أعطت منظراً يخلو من التّكرار المملّ والنّشاز المُخلّ في أشكال النّوافذ التي تُعتبر بلا شكّ أهم عناصر الواجهة اليمنيّة. من جهة أخرى يُطلق على هذا العنصر المعماري إسم القمريّات التي تعتبر تقليد معماري يمني لم ينحصر في مباني الحكم والمعابد والكنائس والمساجد كغيره من الحضارات التي كانت تحصر القدسيّة في مباني معيّنة بل امتدّ ليشمل كافّة المباني والمنشآت اليمينة. ومازال اليمنيّون يلتزمون بالقمريّات التي كانت ذات شكل ولون القمر. فهي بالإضافة لما تحتلّه القمريّة من بُعد فنّي فإنّ لها بُعداً دينيّاً، إذ يعتقد الكثير من اليمنيّين أن البيت بلا قمريّة هو بيت بلا بركة.
أما العناصر الرئيسيّة الثلاثة التي شكّلت النّمط الحضري العام لمدينة صنعاء القديمة هي: طرق المدينة، الساحة الاجتماعيّة والحديقة الحضريّة. إنّ مفهوم الحياة المجتمعيّة تتجسّد في التصميم الذكي للمدينة القديمة حيث تُعدّ السّاحة الاجتماعية عنصراً ديناميكيّاً للغاية في الحيّ الحضري، خاصّة إذا كانت تضمّ مسجداً حيث مكان للاحتفال بالمناسبات الدّينية والاجتماعيّة ولتقوية العلاقات الاجتماعية. ويشتمل النّمط الحضري للمدينة على العديد من التّجمعات السّكنية المتشابهة في التّوجه والتّنظيم المكاني لعناصرها وإن اختلف في الشّكل والحجم وذلك لتوفير مساحات وظيفيّة مناسبة لكل من المناطق العامّة والخاصة والفصل المطلوب بينهما من خلال عدّة مستويات تبدأ بالأكثر عموميّة وتنتهي بأكثرها خصوصيّة. أمّا المناطق الحضريّة فتقسّم إلى أحياء، والحيّ السّكني إلى عدد من التّجمعات السّكنية، يتمّ تجميعها حول المساحات الحضريّة وربطها ببعضها البعض ومع المناطق العامّة (مثل السوق والمسجد) بالطرقات.
اليمن التي لاتُهزم
كقصص ألف ليلةٍ وليلة عاشتها اليمن، من صراع الممالك وانتصارالملك السبئي العظيم ياسر يوحانيم على العرش في التاريخ القديم ودخول اليمن العصر الإسلامي مع الأيوبيين ومن ثم العثمانيين في ظل تطور وتوسع مستمرّ في حدود وعاصمة اليمن، فانتقال اليمن إلى العصر الحديث في فترة حكم الزّيدية وتوالي التحولات المبكرة في صنعاء بعد الثورة والحرب الأهلية التي مهّدت لتأسيس اليمن الحديث (الستينيات) والطفرة النّفطية التي جذبت العمالة اليمنية للخليج (السبعينيات) والتي كانت سبباً فيما بعد بتدهور اقتصادي حاد (التسعينيات)، بعد أن ارتفاع سعر أرض البناء خاصة في صنعاء إلى سعر بعض الشوارع في المدن الأوروبية إثر تحويلات العمالة المهاجرة الضخمة لبناء المنازل، إذ أجبرت السعودية آلاف اليمنيين على العودة إلى ديارهم ضريبة لموقفهم المساند لصدام حسين بعد غزو العراق للكويت واتخاذهم موقف ضد أمريكا والسعودية في حرب الخليج الأولى. هذا بالاضافة لدخول اليمن العصر الحديث المليء بالتدخلات الأجنبية من جهة وصحوة الشّعب اليمني تجاه حقّه في تقرير المصير.
بالخلاصة ليس غريباً على شعب عانى ما عاناه أن يُسّلم أو يستسلم لمُحتلّ أو غازي أو ظالم وهو ابن القبائل الأقحاح، عنيدٌ كعمارته الضّاربة في التّاريخ، أصيلٌ كأصالة نسبه وإرثه العالمي. يجب أن يعيش اليمن ليس فقط لأنه معلم تاريخيّ عظيم، لكن لكونه مصدر لتعليم القيم الثّقافية الإنسانيّة وهي حرب الثّقافات اليوم.
"Related Posts
كاتبة لبنانية