Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

يُعدّ زيجمونت باومان واحداً من أبرز المفكرين النقديين في القرن العشرين. فلقد قدّم هذا المؤلف غزير الإنتاج، مساهمات كثيرة في مسائل متنوعة بدءاً من الاستهلاكية وصولاً إلى الأخلاق وغيرهما. ومن أبرز مساهماته اشتغاله في مسألة الحداثة. وانطلاقاً من مدارس مختلفة في التفكير النقدي، بما فيها فرويد وماركس، طوّرت أعمال بومان تحليلات وانتقادات للحالة الحداثوية، بُيّنت فيها الكثير من أخطاء الحداثة المفهومية، ومقيّداتها، ووعودها الكاذبة

علي قاسم

قراءة نقدية في نقد باومان للحداثة

يُعدّ زيجمونت باومانZygmunt Baumann  واحداً من أبرز المفكرين النقديين في القرن العشرين. فلقد قدّم هذا المؤلف غزير الإنتاج، مساهمات كثيرة في مسائل متنوعة بدءاً من الاستهلاكية وصولاً إلى الأخلاق وغيرهما. ومن أبرز مساهماته اشتغاله في مسألة الحداثة. وانطلاقاً من مدارس مختلفة في التفكير النقدي، بما فيها فرويد وماركس، طوّرت أعمال بومان تحليلات وانتقادات للحالة الحداثوية، بُيّنت فيها الكثير من أخطاء الحداثة المفهومية، ومقيّداتها، ووعودها الكاذبة.

ولكن وعلى الرغم من إسهاماته المشاد بها، إلا أن تحليل بومان للحداثة يفتقر إلى معالجة لمسائل مهمّة منها: الاستعمار بشقّيه التاريخي والمستمر، والإمبريالية، واللامساواة العالمية بين أوروبا والمستعمرات الاوروبية (كالولايات المتحدة) وبقية العالم. وفي الواقع، يشوب الغياب المذهل "لبقية العالم" أعمال بومان. إذ كما بيّن بشكل مكثّف علماء ما بعد الاستعمار، والعلماء المناهضون للاستعماروالداعون إلى إنهائه بشكل تام، فإن أوروبا هي ثمرةالاستعمار. كما توضح بامبراBhambra (2007) ، لم تتحقق الحداثة الأوروبية إلا عبر امواجهات الاستعماريةوما انتجته من نظام عالمي. لذا فإن انشغال باومان في فهم الحداثة الأوروبية من خلال الاقتصار على تحليل محصور بأوروبا، قد أدّى إلى محو ممنهج لارتباط أوروبا بـ"الآخرين" وتشكّلها بجهدهم وعذاباتهم. وسوء الإدراك هذا وعدم الالتفات إلى حيثيات جوهرية هي آفات تصيب العمليات التنظيرية كتلك التي قام بها بومان.

ويمكن للقارئ إبّان تصفّحه أعمال باومان أن يجد أمثلة عديدة على هذه الآفات. ففي التفكير حول الـ"Stranger"، يفشل بومان في تحليل بناء هذه الحالة (figure) ودراسته خارج أوروبا والدولة القومية نفسها. فمن استعباد الأفارقة، وذبح السكّان الأصليين، إلى المهاجرين واللاجئين غير الأوروبيين في أيامنا، تتكرّر أمثلة التغييب والمحو لمسائل لو تم معالجتها لتغيّرت التصورات التنظيرية بشكل جذري.

في هذا السياق، ينتج "الاختلاف" بالنسبة لبومان تناقضاً، فيما ينتج "الاختلاف" (المنتج) في الفكر المناهض للاستعمار الحداثة نفسها. كذلك عند طرح مسألة "التعاضد بين البشر"، لا يلتفت بومان إلى تجريد المجتمعات الأصلية من إنسانيتها باعتباره أساساً ضرورياً لاختراع فئة "الانسان" نفسها تحت الهيمنة ذات المركزية الأوروبية.

ولعل أوضح مثال على كل هذا معالجة بومان لقضية الهولوكوست باعتبارها حادثة أساسية في فهم الحداثة. فبصفته شخصاً يهودياً شهدت عائلته وعانت من وطأة ألمانيا النازية، كان باومان مشغولاً بشكل كبير بالهولوكوست على وجه الخصوص، وبالحرب العالمية الثانية بشكل عام. إلا أنّ الهولوكوست يجب أن تُفهم، كما يبيّن يورغين زيمرير Jurgen Zimmerer (2008) وآخرون، باعتبارها واحدة من أشكال الاستعمار: تطبيق لتقنية طوّرت واستخدمت منذ القدم خارج أوروبا على غير الأوروبيين.

بمحوه هذه النسخة الأطول من التاريخ، وانشغاله بالحالة الحداثية، يتعامل باومان مع الهولوكوست، لا سيما في كتبه عن الحداثة، كنتيجة لاحقة للفعل الحداثوي، لا كشكل من أشكال القوة والسيطرة التي شكلت تلك الحداثة – ولا تزال تشكّلها بأشكال مختلفة في جميع أنحاء العالم. وفيما يشير باومان بشكل ملفت إلى أنّ أشكال الفظائع والدمار التي خلفتها الحروب العالمية لم تكن خارجة عن الحداثة، كما ادعى الكثيرون، بل كانت الحداثة شرط امكانيتها، فإن تحليلاً مناهضاً للاستعمار سيُظهر بشكل أدقّ أن الإبادات الجماعية، والإبادات المعرفية، وغيرها من أشكال الدمار كانت كلّها من مكونات الحداثة نفسها، لا أنّ الحداثة جعلتها ممكنة فحسب. وسيبين مثل هذا التحليل حتماً كيف أنّ هذه العمليات والمؤسسات هي شرط ضروري لتوليد الحداثة ولإعادة توليدها. ومن هذا المنطلق، فإن تلكّؤ بومان عن معالجة مسألة الاستعمار بمحوريتها يمنعه من التنظير للحداثة ومقاربتها باعتبارها هيكل السلطة العالمي التي هي عليه.

ويلفت علماء مناهضة الاستعمار لوجوب التمييز بين الأشكال الخارجية والداخلية (فيما يتعلق بنظرية المعرفة أوروبية-المركز) للفكر والنظرية النقديَّين. فالنقد الذي يقدّمه بومان هو نقد داخلي. فمن اقتصاره على نظرية المعرفة الأوروبية، وقبوله سردها الخطي للتاريخ، واحتفاءه بإنجازاتها المزعومة، إلى محوه تشابك وترابط أوروبا ببقية العالم كشرط وجودها. ومع تقدم حركة إنهاء الاستعمار في الدوائر الاكاديمية، ظهرت محاولات متعددة لإنشاء حوار بين أعمال بومان من جهة، وبين الفكر المناهض للاستعمار، والفكر ما بعد الاستعماري والفكر "الديكولونيالي"، كمؤتمر نظم عام 2020 بعنوان "جوفمان ما بعد الاستعمار" بجامعة ليدز بالمملكة المتحدة. ويبقى أن ننتظر لنرى إمكانات مثل هذه المحادثات وقدرتها التوليدية على تطوير التنظير التحرري.

كاتب وباحث لبناني مقيم في بريطانيا