Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

تميز لبنان بنهضة أدبية وثقافية واسعة بدأت مع أواخر مرحلة الوجود العثماني، نهاية القرن التاسع عشر، وبداية مرحلة الانتداب الفرنسي في الثلث الأول من القرن العشرين. ظهر في تلك الحقبة المئات من الأدباء والشعراء والعلماء والفلاسفة والمفكرين؛ جلهم من بلاد الشام ولبنان، وكان من أبرز هؤلاء جبران خليل جبران وأمين الريحاني وتوفيق يوسف عواد وغيرهم ممن ساهموا في تعزيز النهضة الأدبية والعلمية العربية والمحافظة على لغة العرب وعلومهم وإرث فلاسفتهم كتراث

أيمن القاسم أحمد

مشكلة الديمقراطية والوحدة في الوطن العربي

تميز لبنان بنهضة أدبية وثقافية واسعة بدأت مع أواخر مرحلة الوجود العثماني، نهاية القرن التاسع عشر، وبداية مرحلة الانتداب الفرنسي في الثلث الأول من القرن العشرين. ظهر في تلك الحقبة المئات من الأدباء والشعراء والعلماء والفلاسفة والمفكرين؛ جلهم من بلاد الشام ولبنان، وكان من أبرز هؤلاء جبران خليل جبران وأمين الريحاني وتوفيق يوسف عواد وغيرهم ممن ساهموا في تعزيز النهضة الأدبية والعلمية العربية والمحافظة على لغة العرب وعلومهم وإرث فلاسفتهم كتراث. فقاموا بصوغ نتاجهم الفكري والعلمي ومواكبة الثورة العلمية الكبرى ومجالات تطورها؛ وكان من نتائج هذه النهضة تعريب المصطلحات العلمية وإدخالها إلى القاموس العربي بأرقى ما يكون الفن والإبداع.

أواسط الخمسينات، أيام الموجة التحررية الثورية العربية للتخلص من الاستعمار الكلاسيكي القديم (بقيادة الإمبرياليتين البريطانية والفرنسية)، ذكر الراحل قسطنطين زريق في مذكراته (ذكريات لم تكتمل بعد) بعضاً من سيرة الزعيم الوطني السيد اسماعيل الأزهري، عندما كان الأخير يدرس في الجامعة الأمريكية في بعثة ثلاثية لدراسة الاداب عام 1929، ليعود بعدها إلى السودان مشاركاً في حركة الاستقلال وفي تأسيس أول حكومة وطنية بعد خروج المستعمر. انخرط الأزهري بعدها في مؤتمر باندونغ المؤسس لدول عدم الانحياز. ففي تلك الجامعة في بيروت، استفاد الأزهري كثيراً من البيئة الفكرية المتمثلةفي جمعية العروة الوثقى التي مثلت تجمعاً لطلاب من مختلف البلدان العربية في وقت شهدت فيه هذه البلدان غلياناً وطنياً فكانت ميداناً لتصارع الأفكار والعقائد القومية، ومنبتاً لبعض التنظيمات السياسية كحركة القوميين العرب والحزب السوري القومي الاجتماعي ولا ننسى أيضاً الأديب الألمعي السوداني معاوية محمد نور الذي وصل الى بيروت هرباً من أسرته التي حاولت إرغامه على دراسة الطب في كلية كتشنر الطبية، ففر إلى بيروت ليصير بعدها طالباً في كلية الآداب بالجامعة الأمريكية فيها.

في أيلول/ سبتمبر سنة 1984، قام مركز دراسات الوحدة العربية بعقد ندوة فكرية في بيروت. قُدّم في الندوة الكثير من الأوراق العلمية التي شارك في إعدادها أربعة عشر باحثاً ليتم نشرها في الكتاب الخامس من سلسلة كتب المستقبل العربي التي يصدرها المركز. كان جدل الديمقراطية والوحدة حاضراً في الندوة، ومن خلال ورقة الدكتور سيد سعيد التي جاءت تحت عنوان (الديمقراطية ومشكلات الوحدة العربية). وككل الناقشات التي دارت حول مهمات التحول الديمقراطي في الوطن العربي، كان ثمة سؤال حول العلاقة بين الديمقراطية والوحدة. وفي هذه المسألة إشكالات وتساؤلات، حول تاثير غياب الديمقراطية على إمكانية تحقيق الوحدة، ثم أثر تحقيق الحريات، ولو بحدودها دنيا، على إمكانيات تحقيق الوحدة العربية.

صعوبات وتحديات

في مقالته "نظام عالم متغير: البعد العربي (1980)"، يقدم إدوارد سعيد توصيفاً سياسياً مركباً ومقتضباً للبعد العربي في إطار النظام العالمي وتحولاته. ملاحظات سعيد في هذه المقالة القديمة نسبياً مازالت شديدة الانسجام مع الحالة العربية الراهنة التي تدعو إلى القلق والحسرة أكثر مما تبعث على الاطمئنان والارتياح. الدول العربية في رؤية إدوارد سعيد، غير قادرة على اختراق النظام العالمي الجديد بكيفية فعالة ومؤثرة ومنتجة وعاجزة عن استيعاب التحولات العالمية الكبرى التي تتبلور يوماً بعد آخر نتيجة تجدد المعارف وتطور نظم المعلومات. يرى سعيد أنه لم يتم توظيف رأس المال العربي بكيفية استراتيجيه ومركّزة وفق سياسات عقلانية لمسايرة المتغيرات العالمية والتأثير فيها، بل تم تشتيت الثروات وتصريف أغلبها في شكل ودائع مربحة على المدى القصير في المصارف العالمية بما لا يخدم المصالح الاستراتيجية الكبرى للبلاد العربية في العمق. كما لاحظ إدوارد سعيد أن هيمنة إيديولوجيا أمن الدولة في البلدان العربية قد شكلت عائقاً أمام تطور البنيات السياسية والمدنية لهذه الدول، فأدت، تبعا لذلك، إلى تراجع الخيارات السياسية وتقلص الحريات وضياع الحقوق الديمقراطية، مما خلق حالة من الاغتراب بالنسبة للشعوب كما بالنسبة للدول والحكومات.

الديمقراطية كانت من أهم الأسس التي قامت عليها الممارسات السياسية الحديثة وسعت الأمم في كل مراحلها التاريخية، إلى محاولة تجسيد الديمقراطية وممارستها. إلا أن الحديث عن الديمقراطية في الفكر العربي الحديث يستدعي منا طرح مجموعة من التساؤلات شكلتها الممارسة السياسية ذاتها في الواقع العربي الحديث!

هنالك بطبيعة الحال صعوبات حقيقية عديدة تحول دون التوصل إلى الحديث عن تقدير موضوعي دقيق للعلاقة بين الديمقراطية والوحدة، وأولى هذه المشكلات، وربما كان أكثرها أهمية هو غياب الاتفاق حول تعريف كل من مصطلحي الديمقراطية والوحدة. وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف الفكري حول التعريف، فإنه لا يمكن التنبؤ على وجه دقيق بالأشكال الخاصة التي يمكن أن يتحقق بها كل من الديمقراطية والوحدة. فالتصور القائم على الهندسة الاجتماعية والذي يفترض ضمنا أن التطورات السياسية والاجتماعية المادية يمكن أن يتم اشتقاقها عن صور ذهنية وخطط رامية الى تحقيقها ليس فيه الكثير من الصواب، إذ لا يستطيع أحد مهما كان تمرّسه العلمي أن ياخذ في الاعتبار عشرات المتغيرات التي تتدخل في تشكيل الاتجاهات والنتائج الواقعية للصراع حول الديمقراطية أو الوحدة.

تياران قوميان تناولا العلاقة بين الوحدة العربية والديمقراطية

يمكن القول أن هناك تيارين عريضين في مجال تحديد العلاقة بين الديمقراطية والوحدة.التيار الأول يرى بالقول بأنه لو تُرك الخيار للجماهير العربية لاختارت الوحدة كياناً بنيوياً تعطيه ولاءها، وتحل في إطاره مشكلاتها، وتبلور عبره منهج تقدمها. يدلل هذا التيار على وجهة نظره ببراهين عدة. ففي المقام الأول يعتقد مؤيدو هذا التيار بأن لحظات التفجر المتعاقبة في التاريخ العربي تشهد بأن الوحدة هي خيار الجماهير. ففي لحظات محددة تتجاوز الجماهير العربية في جميع الأقاليم أنظمتها السياسية وحدودها الإقليمية عندما تشعر بعجز الحكومات والأنظمة المحلية عن التصدي للأخطار التي تهدد كيان الأمة ككل.

بوسع هذا التحليل أن يقوم بسرد قائمة من الأحداث التي يتجلى فيها هذا التضامن ويستنتج من ذلك أنه حين تستطيع الجماهير العربية أن تنتزع حق المشاركة في صناعة القرار فإنها بحكم انتمائها القومي ستسعى بالفعل بصورة وحدوية إلى السعي لبناء الكيان العربي الواحد. وبالتالي، تعني الديمقراطية بالنسبة إلى هذا التيار المقدمة الطبيعية الطبيعية للوحدة، وأنه مع ظهور الأنظمة الشمولية الاستبدادية التي تهمش الجماهير وتهمل مسألة الديمقراطية تتطور الميول الإنعزالية والفكر الانفصالي.

أما التيار الثاني، فينكر وجود علاقة مباشرة وتلقائية بين الوحدة ومسألة الديمقراطية سواء على الصعيد العالمي أو العربي، ويستطيع هذا التيار أن يذكّر بالأمثلة الذائعة الصيت لتجارب الوحدة الحديثة والتي كان العنف وتركيز السلطات إحدى أهم أدواتها للتحقق (مثل الوحدة الألمانية والإيطالية في سبعينيات القرن التاسع عشر). يُعتبر الدكتور نديم البيطار نموذجاً واضحاً لهذه الفكرة، إذ يرى أن الأسلوب الديمقراطي لا يستطيع أن يخلق وأن يحقق وحدة قومية ويبرر ذلك بالحاجة لتحولات ضخمة وضرورات التنمية الاقتصادية ويوصي بأن الدولة العربية يجب أن تقوم على الإرغام والعنف وأن تكون ذات سلطات سياسية مركزية.

ولا ننسى أن هناك تيار فرعي في داخل التيار الثاني يقوم على ترويج أسطورة سياسية قوامها أن ما تحتاجه حركة الوحدة العربية هو زعيم ينهض كرمز لآمال الوحدة ويستطيع أن يرفع الحاجز عن تدفق مشاعر وقناعات الوحدة عند الجماهير وأن يقودها بمهارة وحكمة وبحزم وصرامة مع ما يتضمّنه ذلك من استخدام العنف والأساليب الاستبدادية على طريق الوحدة ونعني هنا بالأسطورة السياسية لا مجرد نمط الوعي الزائف وإنما نمط يتسم بطبيعة يوتوبية.

إلى هنا يمكن أن نتستطيع أن نرى التناقض بين التيارين السابقين لتحليل العلاقة بين الوحدة والديمقراطية يتقدم من الناحية الأساسية في المعارضة القائمة داخل ثنائية (العقل/ العاطفة). فالتيار الاول يستند لمقولة عواطف الجماهير التي يصفها بأنها قومية الطبع، وأن الجماهير أدرى بمصالحها من هؤلاء الذين يريدون فرض الوصاية الفكرية عليها تحت اسم الشروط الموضوعية أو نضوج الظروف التاريخية. وعلى النقيض من التحليل السابق فإن التيار الثاني يؤسس أفكاره بخصوص العلاقة بين الديمقراطية والوحدة على أساس مقولة العقل ويستخدم في تدعيمها عدداً من المبررات؛ أولها أنه من الخطأ افتراض أن الوعي الراهن للجماهير العربية يتصف بالوحدوية فثمة فارق ذاتي وموضوعي بين جيشان عاطفي يؤكد على التضامن وخاصة في لحظات الأزمات الحادة، وبين الاستعداد للوفاء بمتطلبات الوحدة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.

ويُلاحظ أن التناقض والتعارض بين التيارين السابقين يقوم من الناحية المنهجية على تعارض يتسم بالخصائص التالية:

1-أنه يقوم على ثنائية العقل والعاطفة، ويبدو حلها الجدلي غائباً.

2-أنه على الرغم من استعانتها بأمثلة مستقاة من التاريخ العربي فإن الطرح التاريخي نفسه ناقص في كليهما وكلا التحليلان يفترقان في تحليل الطبيعة النوعية لمشكلتي الوحدة والديمقراطية في الوطن العربي.

فضيلة الديمقراطية في الضمان الاستراتيجي لوحدة متينة وحقيقية

يمكن التأكيد من البداية على أن الخيار الديمقراطي لحل الوحدة العربية يتفوق بشكل حاسم على أي خيار آخر. إلا أنه وبالرغم من فضائل الديمقراطية بحد ذاتها وما تخلقه من مناخ، وما تتيحه من حقوق وحاجات أساسية، قد يبدو هذا الحل إشكالياً في حد ذاته، لأن الديمقراطية السياسة تعني التعددية السياسية مع ما تتيحه حرية العمل لكل من القوى الوحدوية والانفصالية من الحرية في الناحية القانونية. ومع ذلك، فإن الشرط الديمقراطي يحقق أفضل الفرص لتنظيم وتعبئة القوى الوحدوية ويوفر لها فرص التوجه المباشر إلى الجماهير العربية وإمكانية التعلم طويل المدى ورفع مستوى الوعي السياسي بقضية الوحدة للجماهير الشعبية، الأمر الذي يجعل مصالحها تأتي مترافقة مع المصالح الاستراتيجية لهدف مثل هدف الوحدة. مع ذلك فإن أثر هذه العوامل لا يظهر إلا على المستويين المتوسط والطويل نسبياً، إثر استقرار نظام ديمقراطي أو في سياق تطور ديمقراطي في عدد من البلاد العربية.

وبالإشارة إلى المفاهيم السابقة يمكن أن نشخّص الملامح العامة للتحولات الاجتماعية في الوطن العربي في ما يتصل بقضيتي الديمقراطية والوحدة، فالجيل الحالي من الحكام العرب أسس مشروعيته السياسية على إنجاز تحولات اجتماعية مهمة في مقتبل الستينات عندما قام بتصفية الإقطاع شاملاً ذلك النظام السياسي القائم على الإقطاع والمتحالف بهذه الدرجة أو تلك مع المعسكر الإمبريالي الغربي (نظام نوري السعيد في العراق ايام حلف بغداد نموذجاً)، ويمكن القول بأن الإنجاز الذي حققه هذا الجيل في عقد الستينيات كان إنجازاً ديمقراطياً بالنظر إلى مجمل مشكلات التطور الاجتماعي العربي في ذلك الوقت، على أنه مع اطراد الممارسات السياسية الإدارية التسلطية والقمعية أصبح من المستحيل الهرب من النتيجة الحتمية؛ وهي أن معظم الأوضاع الاجتماعية في الوطن العربي أصبحت أسيرة للممارسات المعادية للديمقراطية السياسية، بل إن الطابع المعادي للديمقراطية لشكل الحكم قد انتهى إلى وأد الانجاز الديمقراطي الاجتماعي عندما حلت علاقات استغلال جديدة محل الإقطاع واتسمت هذه العلاقات ببروز هيمنة بيروقراطية لتجمعات سياسية ذات طبيعة اولغارشية، وهناك الكثير من الأدلة على أن تدهور الميل نحو الوحدوية، وهبوط الحركة القومية، يعود على الأقل جزئياً إلى اطراد الطابع اللا ديمقراطي للأنظمة التي بدأت راديكالية في مقتبل الستينيات.

غير أن السياق التاريخي لقضية الديمقراطية لا يتوقف عند هذا الحد بل ويتجاوزه إلى وجود هيمنة لايديولوجية معادية للديمقراطية على وعي جانب مهم من القوى الوحدوية عجزها عن تناول الظرف التاريخي الذي نشأت فيه الدعوة الراديكالية للوحدة متصفة بطابع وثقافة معادية للديمقراطية. فلقد نشأت الدعوة للقومية العربية والوحدة تاريخياً في نطاق برجوازية كبيرة عجزت عن المضي في تحقيق أي مهمة للوحدة وتوقفت عند إنشاء جامعة الدول العربية التي تحولت فيما بعد إلى نوع من تنظيم القوى الحاكمة من حيث رعايتها للأوضاع القائمة، مع ما تشتمل تلك القوى من بنى مجزأة ومتخلفة وتابعة. وقد أكدت ذلك مواقفها الخجولة والجبانة من الاعتداء الأميركي على العراق والاحتلال الصهيوني لفلسطين، ومع الأزمة السورية.

 

 

ناشط وباحث سياسي عربي من الخرطوم - السودان