لا يُعد النبوغ السبب الوحيد في وصول السيد محمد باقر الصدر إلى مكانته العلمية المرموقة، بل تكامل ذلك مع جهد استثنائي في المطالعة والتحقيق، لذلك تعد الآثار التي تركها من الأعمال الجديرة بالدراسة والتقدير، فهو لم يكتف بالإنتاج الفقهي الأصولي الذي اعتادته حوزة النجف ردحاً طويلاً من الزمن، إنما تجاوز ذلك أشواطاً، فكتب في الفلسفة والاقتصاد والمنطق
محمد باقر الصدر: المرجع الشامل
لا يُعد النبوغ السبب الوحيد في وصول السيد محمد باقر الصدر إلى مكانته العلمية المرموقة، بل تكامل ذلك مع جهد استثنائي في المطالعة والتحقيق، لذلك تعد الآثار التي تركها من الأعمال الجديرة بالدراسة والتقدير، فهو لم يكتف بالإنتاج الفقهي الأصولي الذي اعتادته حوزة النجف ردحاً طويلاً من الزمن، إنما تجاوز ذلك أشواطاً، فكتب في الفلسفة والاقتصاد والمنطق، على الرغم من عدم متابعة دراسته في أي جامعة، وكذلك اكتفائه بالعربية لغةً للبحث والمطالعة والتدريس. ومما يُحسب له أنه كان ابن حوزة النجف الأشرف الذي يملك مكتبة متواضعة وإمكانيات مادية بسيطة. كما رفض الصدر فكرة الاكتفاء بكونه مفكراً فحسب، بل عمد إلى تطبيق فكره في الواقع الحي، خاتماً حياته بالشهادة عن عمر لم يتجاوز خمسة وأربعين عاماً.
عبقرية السيد الصدر
ارتبط نجاح السيد الصدر بالمواهب الفطرية، فقد كان سريع البديهة، عميق التحليل وقوي الحافظة. ولعل ذلك تجلى في تأليفه أول كتاب له حول حياة الأئمة بعمر الثماني سنوات؛ والملفتُ في عبقريته أنه استطاع أن يُنهي أربعة صفوف في عامين فقطْ، كان ذلك خلال دراسته في مدرسة "منتدى النشر" في مدينة الكاظمية. ومما لا شك فيه، أن براعة السيد الصدر تجسدت عندما قدم أول كتاب تحليلي بعنوان "فدك في التاريخ" عن عمر لا يتجاوز أربعة عشر ربيعاً، وهذا الكتاب عبارة عن تحليل تاريخي بحث فيه قضية "أرض فدك" وما تحملُه من إشكاليات بأسلوب علمي موضوعي مناقشاً بعض المسائل الفقهية لكبار علماء الشيعة الإمامية بهذا الشأن. في الوقت عينه، يؤكد السيد مرتضى العسكري أن السيد الصدر حصل على شهادة اجتهاد من أعظم علماء النجف آنذاك؛ السيد الخوئي، وذلك في بداية تكليف السيد الصدر، ويؤكد أنه كان مقلداً لخاله الشيخ مرتضى آل ياسين قبل البلوغ، وقد أصبح يعود إلى آرائه الشخصية بعد ذلك. أضف إلى ذلك، فإن كتابه "غاية الفكر في علم الأصول" زاد من رصيده في الكتابة والتأليف وهو في سن السابعة عشر فقط. واللافت في هذا الكتاب أنه يتضمنُ دراسةً لأعقد مسائل العالم الإجمالي في علم الأصول، دراسةً لكتاب "كفاية الأصول" للآخوند الخراساني، وعمد السيد إلى إثارة مواضيع تلامس الحياة الاجتماعية للبشر في تنظيم علاقاتهم ووضع الأطر القانونية لتحركاتهم للوصول نحو المجتمع الفاضل (اقتصادنا، فلسفتنا، البنك اللاربوي...).
تكامل النبوغ مع الجهد المضاعف
مهدت هذه العبقرية الفذة والسابقة العائلية لآل الصدر مهدت الأرض ليقطع السيدُ مراحل السلوك العلمي بوتيرة متميزة، لكنه في الوقت نفسه لم يكن من المتكئين على نبوغهم الذين يكتفون بملكاتهم العقلية الخامة من دون صقلها بالمعارف الداعمة، أو أولئك الذين تتراجع مساعيهم بسبب امتلاكهم قدرة كبيرة على فهم الأمور، فيقللون التعمق والبحث لأنهم يدركون المطالب بسرعة، بل أثبت السيد الصدر أنه صاحب همة عالية
وجهد كبير في المسار العلمي، إذ إنه لم يكن ليخرج من غرفته الضيقة أثناء طفولته، والتي عبر عنها بالصندوق، إلا للصلاة أو تناول الطعام. ويذكر أنه كان يبذل في الدراسة ما يبذله خمسة طلاب مجدين. كان يُؤاخي الكتب لمدة ست عشرة ساعةً في اليوم الواحد، وقد سأله أحد الطلاب عن مطالعته فأجاب : "إن محمد باقر الصدر يساوي ١٠% مطالعة و ٩٠% تفكر". ويُروى عنه أنه كان يقدسُ الوقت ويسعى قدر الإمكان لعدم هدره، لدرجة أنه كان يستغل وقت شرائه لحاجيات المنزل في التفكير لمعالجة إشكالية علمية معينة؛ أما نومه فلم يكن يتجاوز الأربع ساعات، وهو الذي كان يحرم على نفسه النوم في النهار "القيلولة" مستغرباً كيف أن طالب العلم ينام في الليل ثم يعود لينام في النهار.
ولا غرابة في أنْ يدفعهُ انكبابُه الدائمُ على تحصيل العلم إلى التخفيف من نشاطاته العادية، فهو لم يزر الكاظمية "مسقط رأسه" لمدة خمس سنوات متواصلة، وحين زارها تاه في أزقتها لأن الشوارع كانت متبدلة، بالإضافة إلى أنه لم يزر الكوفة لعدة سنوات مع أنها لا تبعد أكثر من عشرة كيلومترات عن النجف.
المرجعية في فكر السيد الصدر
رسم السيد الصدر مشروعاً لتصحيح مسار المرجعية الدينية وإخراجها من إطارها التقليدي المعروف أسماه (المرجعية الصالحة)، ووضع من أجل ذلك خطة عمل واضحة، تهدف لمعالجة الإشكاليات وتجاوز نقاط الضعف التي تعاني منها هذه المرجعيات، من أجل جعلها قادرة على القيام بالأدوار والمسؤوليات الملقاة على عاتقها بكفاءة وفعالية. ومن هنا، يرى السيد الصدر أن دور المرجعية لا يقتصر على الإرشاد العام وإدارة الأموال الشرعية ونشر الأحكام، بل لعل الهدف الأسمى لها هو قيادة الأمة وإدارة شؤونها، ثم ضمان المسيرة وحمايتُها من الانحرافات المحتملة. وهذا جانب من أطروحة (خط المرجعية) الذي تبناه. ويقول السيد الصدر في هذا الصدد: "إن المرجعية من خلال نفوذها في عمق الأمة الإسلامية هي وحدها القادرة سياسياً على النهوض بالأمة، ومن ثم استلام زمام الحكم والدولة".
تحريم الانتماء إلى حزب البعث وتأييد الثورة الإسلامية
كانت معارضةُ السيد الصدر معارضةً علنيةً شرسة رغم سلسلة الاعتقالات والإعدامات التي كان ينفذها النظام الصدامي بحق الشعب العراقي، ولقد نال السيد نصيبه من ذلك الظلم السلطوي حيث اعتقل مرتين: الأولى عام 1971 والثانية عام 1974، والذي تعرض خلالهما لأبشع أنواع التحقيق الأمني والتعذيب. وفي وقت لاحق أعلن صراحةً وأمام الملأ حُرمة الانتماء إلى حزب البعث، وأكد ذلك في جهده المستمر في نشر جرائم النظام البعثي وقمعه وفساده... وعلى الرغم من أن مرجعية السيد الصدر لم تكن آنذاك مرجعيةً عامة، بمعنى لم يكن يملك قاعدة شعبية أو سلطة مستمدة من المقلدين، إلا أن ذلك لم ينهه عن الاستمرار في جهوده على الساحة السياسة والاجتماعية. ولا بد هنا من ذكر محاولات حزب البعث المتكررة في التفاوض مع السيد بهدف ثنيه عن التدخل في الأمور السياسية، حيث أبلغوه بدايةً أنهم مستعدون لوقف التهجم عليه إذا ما اكتفى بالتأليف والتدريس الحوزوي، كما عرضوا عليه لاحقاً سيارةً فاخرة... وقد أجاب السيد بصلابة وإرادة قويتين رافضاً تلك المغريات أياً كان نوعُها.
كان السيد الصدر من أكثر المؤمنين بالثورة الإسلامية في إيران واصفاً إياها يوم انتصارها بحلم الأنبياء الذي تحقق على يد الإمام الخميني، داعياً جميع المستضعفين لتأييدها والالتفاف حولها. كذلك أبدى استعداده للسكن في أي قرية من قرى إيران يبلغُ الناس فيها فيما لو طلب الإمام الخميني منه ذلك. وفي هذا الإطار، كتب لمحةً فقهيةً تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران.
الاستعداد للموت دفاعاً عن الأفكار الحقة
بعد وصول السلطات العراقية إلى طريق مسدود مع السيد الصدر، قامت بفرض إقامة جبرية عليه وعائلته في منزله الصغير، وبعد فترة منعت قواتُ البعث وصول الطعام إليهم فأصبح أكلهُم الخبز اليابس فقط، ويُذكر أن المرجع الصدر التصق جلدُه بعظمه وقد نحُل كثيرا. كان يرى أمه العجوز تتلوى من الألم وهو عاجز عن جلب الدواء لها، وقد حرص على ألا يقبل أولاده خوفاً من أن تسجل ذلك أجهزة تنصت البعثيين فتستغلها في تشويه صورته. ورغم كل ما كان يجري على السيد إتهمه البعض حينها بالعمالة لأميركا وأنه يمارس مسرحية مع النظام الصدامي.
بعد كل ما جرى، وبعد تسعة أشهر من بداية الإقامة الجبرية، اعتُقل السيد الصدر وتم إعدامه وأخته بنت الهدى. والعجيبُ من أمره، أنه حتى في آخر لحظات حياته لم يتنازل عن فكرة يؤمن بها ولا عن قضية جاهد من أجلها.
ما أصعب موت الإنسان من أجل قضية وفكرة، ما أعظم ما قام به السيد الصدر. إننا اليوم أحوج ما نكون إلى إعادة التعريف به. أن نقرأه قراءةً موضوعيةً شاملةً لعلنا نعطيه بعضاً من حقه المسلوب، ققد سئمنا الاكتفاء بترديد الشعارات العاطفية لشخصية علمية جامعة مجاهدة قد لا تتكر في المدى المنظور.
Related Posts
كاتب لبناني