وكأنه صار قدراً محتوماً كلما اشتدت المصائب على الشعب اللبناني، بين الحين والآخر، أن يخرج إلى الساحة من يدعي إنجازاً علمياً جديداً لينشره على مواقع التواصل. فيعم الفرح والسرور ببارقة الأمل هذه، ممزوجاً ببعض التخوف من أن يقتنصه الغرب من أهله. وكثيراً ما يَرد الجواب من المتخصصين، بأن هذا الاكتشاف "المُدّعى أو الحقيقي" ليس إنجازاً علمياً مهماً بالمعايير العلمية. ولذا يتساءل الناس: "ما هي المعايير العلمية التي يمكن أن تعطينا فكرة عن أهمية أي إنجاز علمي؟".
كيف نحدد الإنجاز العلمي؟
وكأنه صار قدراً محتوماً كلما اشتدت المصائب على الشعب اللبناني، بين الحين والآخر، أن يخرج إلى الساحة من يدعي إنجازاً علمياً جديداً لينشره على مواقع التواصل. فيعم الفرح والسرور ببارقة الأمل هذه، ممزوجاً ببعض التخوف من أن يقتنصه الغرب من أهله. وكثيراً ما يَرد الجواب من المتخصصين، بأن هذا الاكتشاف "المُدّعى أو الحقيقي" ليس إنجازاً علمياً مهماً بالمعايير العلمية. ولذا يتساءل الناس: "ما هي المعايير العلمية التي يمكن أن تعطينا فكرة عن أهمية أي إنجاز علمي؟".
في هذا المقال، سأحاول أن أقدم خارطة مبسطة تساعد القارئ على التوجه (ولو بشكل حذر) للتحقق من كون الإنجاز المُدّعى ذي قيمة عالية أم لا. وبداية، لا بد أن أشدد أن هذه الخطوات مرتبطة بالانجازات "العلمية". أما الإنجازات الأخرى في الفن وغيره فهي خارج الموضوع المقصود.
الخطوة الأولى: انطلق من الشّكّ بصحة الادعاء. وهذا يعني أن صاحب الادعاء هو من عليه تقديم الأدلة (البيّنة) على صحة مدعاه لا العكس (وليس من واجبك أن تثبت أنه مخطئ). وهذا يعني أنه من حقك - بل من واجبك إذا كنت محترماً لمبادئ المعرفة - أن تطرح الاسئلة التشكيكية وتطالب بالأدلة "الصحيحة". ولا ينبغي لأي مؤثر اجتماعي أن يدفعك للانحياز في موقفك؛ لا المواقع الاخبارية، ولا كثرة المشاركات على مواقع التواصل هي دليل "علمي".
الخطوة الثانية: هل الإنجاز المُدّعى فيه دعوة مفاضلة؟ (أول اختراع كذا، أفضل برنامج كذا، أصغر من قام بكذا، الحل الأفضل للمشكلة الفلانية؟)، ففي حال كان الإنجاز تكراراً لعمل موجود على الإنترنت، فإن قيمة العمل ترتبط في القيمة التشجيعية لفاعله. فطالب المدرسة الذي يقوم بتطبيق مشروع يحتاج جهداً طويلاً - وإن كان مثيله متوفر على الإنترنت - هو أمر حسن ويستأهل ترحيباً. أما المهندس والمتخصص بمجال ما، فإذا ما قام باستنتساخ عمل غيره، فعليه أن يعلم أن هذا ليس بالانجاز الكبير (وإن كان عملاً جيداً بنفسه).
الخطوة الثالثة: إذا كان إنجازاً فريداً بالمفاضلة، يبدأ ها هنا الامتحان العلمي.
لنوضح حدود المسألة بالسؤال التالي: هل يوجد طريقة حاسمة بنحو يقيني تعطينا ترتيباً دقيقاً لأهمية اكتشاف علمي مقارنة باكتشاف آخر؟
الجواب: بالطبع لا. ولسببين:
أولاً: إن الممتحِن للعمل العلمي ليس معصوماً ولا موضوعياً. ولكن عرض الموضوع بشكل علني عبر وسائل النشر العلمية هو ما يقرّب الإمتحان من صفة الموضوعية. أسرد في هذا السياق مقولة لكارل بوبر، فيلسوف العلم الشهير: "إنه لمن الخطأ اعتبار أن الفرد الذي يمارس عملاً علمياً هو أكثر موضوعية من باقي الأفراد. بل إن الموضوعية مرتبطة بالمجتمع العلمي الذي يفتح الباب للنقد، فتكون إمكانية النقد أسهل من إمكانية الإثبات. حينها، يصير الرأي العلمي الصامد أمام أكبر عدد من الإنتقادات العلمية الأقرب للموضوعية".
ولذا فان العمل الظاهر للجميع، والذي يستطيع العديد من الخبراء أن يفحصوه وأن يختبروه هو عمل صلب إذا ما نجا من الإنتقادات.
ثانياً: إن معيار النظر لأهمية الاكتشاف مرتبط بالمشاكل المطروحة "اليوم". وقد نجد اكتشافاً مهملاً في لحظة اكتشافه، ثم يُعاد إحياؤه بعدما تكتشفت الناس أهميته التطبيقية. وهذا يعني أن أهميته غير مرتبطة بكونه "اكتشافاً جديداً"، ولا لكون فلاناً هو "أول من اكتشفه"، فالعديد من الاكتشافات كانت وما زالت دون أية فائدة. باختصار، يُحدد الإنجاز العلمي اليوم إما بكونه علاجاً لمشكلة محددة، أو بما يفتحه من الأبواب على معارف تطبيقية جديدة. كما ويكون معروضاً بشكل علني دون أن "تخدشه" انتقادات علمية منطقية.
إذاً، كيف يمكننا معرفة أهمية الاكتشاف بعد أخذ النقاط أعلاه؟
ثمة طرقُ ثلاث.
الطريقة الاولى: النشر العلمي. هل تم نشر الاكتشاف أو البحث في مجلة علمية؟ هل هذه المجلة مُعتبرة ومحكَّمة؟ (هناك عناصر يعرفها الباحثون في الاختصاص المعني تحدد قوة المجلة، كـ"عامل التأثير - impact factor"، ونسبة القبول).
في حال كانت النتيجة موجبة، فهذا مؤشر جيد، ويعني أن صاحب العمل قد أنجز الضروريات العلمية. أما لمعرفة ما إذا كان هذا "العمل العلمي" "انجاز"، فالورقة البحثية لا تكفي. إذ يأتي سؤال آخر: ما هو تأثير بحثه على المجال؟ هل تمّ ذكر بحثه في أبحاث كثيرة من قِبل "باحثين آخرين"؟ هل ذكر أحد المراجعين المعتبرين في مجاله أن هذا العمل فتح باباً جديداً في هذا الإختصاص؟ فقد تكون ورقته البحثية ورقة عادية مكتوبة بطريقة ممتازة تجمع عدداً كبيراً من المعلومات (كحال "الدراسات الاستقصائية – surveys").
الطريقة الثانية: استلام شهادات من جهات معتبرة وعالية المستوى في المجتمع العلمي (فالشهادات من المجتمع العلمي تمنحنا الثقة بأهلية الباحث/ المكتشف، ولا شكّ في أن من يحوز على جائزة نوبل، أو ميدالية فيلد "مثلاً" على مستوى من الأهلية ما يبعد الشك عن عمله). وفي حال كانت الشهادة غريبة بعض الشيء، يُفضل سؤال أحد الباحثين من أهل الإختصاص عن أهمية هذه الشهادة.
الطريقة الثالثة: هي الطريقة الأسهل والأوضح، وتتمثل بالإثبات العملاني.
فقد لا يكون الانجاز العلمي اكتشافاً نظرياً، ولا يفتح باباً جديداً في العلوم ليتم نشره في مجلات بحثية. بل هو منتج عملاني يؤدّي الوظيفة بشكل ممتاز ويتفوّق على أداء أفضل المنتجات المشابهة.هنا ما علينا سوى تجربته بوجود شهود عيان. ويستحسن أن يُعتمد مبدأ التكذيب في التجربة: فيوضع لصاحب الاكتشاف تحدياً واضحاً لاكتشافه، بشكل يظهر قوة اكتشافه، ويقول بأنه لو فشل فذلك دليل على فشل اكتشافه.
أما براءة الاختراع، والتي تحولت الى وسيلة خداع مؤخراً بسبب سهولة الحصول عليها في بعض الدول، فهي وسيلة لحفظ أي فكرة تقنية كملكية فكرية، أي أنها تدخل في نطاق الحقوق والإدارة (إدارة الموارد) أكثر من كونها تعبيراً عن الأهمية العلمية للتقنية. ولذلك فان براءات الاختراع في مجالات الهندسة تتفوق بشكل كبير على تلك المسجّلة في العلوم. فقد تكون الفكرة تافهة علمياً لكنها تحقق أرباحاً طائلة بسبب فائدتها العملانية، وقد تكون عظيمة علمياً لكنها دون أي جدوى عملانية. وفي العديد من الأحيان قد تكون تافهة علمياً وليست ذات قيمة عملانية.
تختلف قيمة "براءة الاختراع" لدى الشركات بحسب البلد المسجلة فيه (في دول العالم الثالث قلما يكون تسجيل البراءة ذو أهمية). وعندما تكون الفكرة المُراد حمايتها مهمة، فعلى صاحبها أن يسعى إلى تسجيلها في أوروبا أو الولايات المتحدة، وعليه الاستعداد لان يدفع مبلغاً محترماً (تصل كلفة تسجيل براءة محميّة في أوروبا "فقط" قرابة الـ11 ألف يورو للمكتب الذي سيتأكد من "فرادتها").وعليه، ينبغي التفكير ملياً في أهمية الفكرة المراد حمايتها، قبل دفع هذا المبلغ.
كلمة أخيرة،كل ما ذكر أعلاه، هو طريقة مبسطة تساعد القارئ قليلاً ليسير بطريقة حذرة نحو تصديق "الإنجاز العلمي". ولا أدعي انها وسيلة كافية وحاسمة، إذ هناك بعض التفاصيل التي يمكن زيادتها في بعض الحالات. لكن، وقبل كل هذا، من قال أن عليكم أن تقوموا "باكتشاف علمي جديد" لتكونوا رائعين ومبدعين؟ من قال أن من المعيب أن تعيدوا إنتاج ما تم نشره على الإنترنت من مشاريع قام بها مهندس في الهند أو هاوٍ في الولايات المتحدة؟. نحن نعيش ثورة تكنولوجية مميزة تقوم بمعظمها على المشاريع "مفتوحة المصدر - open source". ولذا حري بكل الشغوفين أن يسعوا لاستنساخ هذه المشاريع ويقوموا بتعديلاتهم الخاصة عليها، سواء كانت روبوتات، أو خوارزميات ذكاء اصطناعي، أو محولات كهربائية، أو محركات هيدروجين، أو غيرها من المسائل والتقنيات.
وحريٌّ بهم أن يفرحوا ويفتخروا بأنفسهم لمجرد أن قاموا باستنساخ المشروع "بنجاح". فان المراكمة المعرفية التي سيحصّلونها عظيمة. كما وعلينا أن نعزز ثقافة استنساخ المشاريع لتكون انطلاقة نحو مراكمة لمساتنا الخاصة التي ستحول هذه المشاريع إلى اكتشافات تكنولوجية ومعرفية، ثم إلى "انجازات حقيقية".
Related Posts
مهندس وباحث لبناني