لدوغين نبوءات شتى، منها ما له علاقة بالحرب الروسية – الأوكرانية. دوغين كان قد تنبأ قبل بأن الحرب بين روسيا وأوكرانيا "حتمية" ودعا الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى التدخل العسكري في شرق أوكرانيا "لإنقاذ السلطة الأخلاقية لروسيا". بالنسبة لدوغين، "أوكرانيا كدولة ليس لها معنى جيوسياسي" (راجع: أسس الجغرافيا السياسية)، ودعا إلى أن تستوعبها روسيا بالكامل تقريباً وترك معظم المناطق الغربية من أوكرانيا خارج نطاقها!
جولة في عقل دوغين؛ بوصلة الكرملين
لدوغين نبوءات شتى، منها ما له علاقة بالحرب الروسية – الأوكرانية. دوغين كان قد تنبأ قبل بأن الحرب بين روسيا وأوكرانيا "حتمية" ودعا الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى التدخل العسكري في شرق أوكرانيا "لإنقاذ السلطة الأخلاقية لروسيا". بالنسبة لدوغين، "أوكرانيا كدولة ليس لها معنى جيوسياسي" (راجع: أسس الجغرافيا السياسية)، ودعا إلى أن تستوعبها روسيا بالكامل تقريباً وترك معظم المناطق الغربية من أوكرانيا خارج نطاقها!
يصعب أن تجد تعريفاً واحداً لهذا الرجل. هو مفكر سياسي، ومنظّر استراتيجي، ومتصوف سلافي، وبالكاد يتم هذا العام العقود الستة من عمره. ولد دوغين عام 1962 لوالد في دائرة الاستخبارات العسكرية، درس الطيران في معهد موسكو، ثم غيّر مسار حياته لاحقاً. فبحسب رواية سيرته للكاتب الروسي يفغيني دياكونوف، عدّل دوغين طريقه لينتقل إلى دراسة الفلسفة، وليحوز فيها درجة الدكتوراه، ومن ثم عرّج على العلوم السياسية ليضاعف درجاته العلمية بدكتوراه أخرى.
مبكراً وفي أعوام تفكيك الاتحاد السوفياتي، نشط دوغين ضد ما رآه توتاليتاريا سلطوية، ومن ثم شارك في الانتفاضة الشعبية التي أدت إلى إسقاط يلتسن. لم يترك دوغين لحظة سقوط الاتحاد السوفياتي تمر من غير تحليل رصين، خلُص منه إلى أن الخسارة الكبرى التي حلت ببلاده لم تكُن بسبب الحرب الباردة، بل لانتمائها إلى ما يسمّيه بـ"حضارة اليابسة/ البر" في مقابل حضارة البحر والأطلسي، تلك التي أبدع فيها الأميركيون والأوروبيون على حد سواء.
أخيراً، قدّم دوغين إلى العالم كتابه الجديد، المعنون: "الخلاص من الغرب/ الأوراسية/ الحضارات الأرضية في مقابل الحضارات البحرية والأطلسية"، وفيه رؤية ناقدة أقرب ما تكون إلى الناقمة على الليبرالية المنفلتة إن جاز التعبير. قام الكسندر دوغين بإطلاق "النظرية السياسية الرابعة"، وهي خليط في الواقع بين فلسفات صوفية واشتراكية وفاشية. فيما قُدمت النظرية كنوع من ملء للفراغ الأيديولوجي التاريخي الذي أحدثته الأحادية القطبية الأمريكية، والذي بدأ فور سقوط الاتحاد السوفياتي. يُنكر البناء النظري الفلسفي للنظرية السياسية الرابعة التقدم الخطي للتاريخ، ويرغب في الحفاظ على التقاليد العضوية القومية والدينية، وتنميتها من وجهة النظر الاجتماعية.
لدوغين جذور روسية أرثوذكسية واضحة للعيان، وهو لا يبذل مجهوداً كبيراً في مواراتها أو مداراتها، عبر كتبه وتحليلاته، حتى يكاد المتابع لأدبياته أن يظن أنه من أنصار "مدينة الله"، في مواجهة "مدينة العالم"، بحسب التقسيم الذي أرسى جذوره سان أوغستين في رائعته التاريخية "مدينة الله". يتبنى دوغين بهذا المعنى وجهة نظر أممية متطرفة تجمع بين السياسة المعادية لليبرالية الغربية، والنزعة الروسية الإمبريالية، والحنين إلى مجد الاتحاد السوفيتي السابق، ويستوحي كتاباته من فلاسفة مرتبطين ارتباطاً وثيقاً بالحركات الغنوصية والميتافيزيقة في أوروبا في الثلاثينات، كما ويعد ناقداً صريحا للرأسمالية الجديدة وسياسات أميركا وتوسع حلف الناتو في مناطق الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو سابقاً.
عقب وصول بوتين إلى سدة الكرملين عام 2000، ضخ دوغين دماء جديدة في عروق روسيا، منتقلاً من صفوف المعارضة إلى معسكر المنافحين عن "روسياالجديدة" والمدافعين عنها، وقد رفع صوته تجاه استحقاقات الطرح الأوراسي، بنوع خاص. لذا، أصبح دوغين في روسيا البوتينية شخصية مطلوبة في مراكز التفكير وأحد أكثر الشخصيات تأثيراً في رسم سياسات الكرملين وصناع القرار فيه.
عام 2012، عرض التلفزيون الروسي خطاباً مباشراً لدوغين في الجمعية الفيدرالية في قاعة سانت جورج وسط حضور أكثر من 600 شخصية بارزة، بمن فيهم فلاديمير بوتين. كان دوغين آنذاك يعبر عن أفكار القوى النافذة في السياسة الروسية الجديدة. وهو ما ظهر في ثنايا كلمات المؤتمرين، ومن بينهم بوتين نفسه، من خلال تركيزهم على اصطلاحات ليف غوميليف المفكر الأوراسي الذي أعدمه جوزيف ستالين.
دور حلقة بروخانوف في تجديد المسار الفكري في روسيا بعد برنامج الإصلاح (البروسترويكا)
لحلقة بروخانوف أهمية استثنائية في المشهد الروسي الثقافي اليوم. إذ مثلت هذه الحلقة إحدى المراحل الحاسمة في تطور هذا التيار الأوراسي. حيث جمعا أواسط التسعينيات عدداً من القوى الثقافية المعادية لليبرالية المتغربة ووالمناوئة لإصلاحات رئيس جمهورية روسيا آنذاك بوريس يلتسن.
وبروخانوف مهندس نووي وشاعر وروائي قام برئاسة تحرير مجلة (دن اليوم)، مكنته خبرته الصحفية من العمل كمراسل في مناطق الحروب والنزاعات في شتى أنحاء العالم أيام الإتحاد السوفيتي.
في مقالة له، يلخص بروخانوف أفكاره الرئيسية في مقال تحت عنوان "أيديولوجيا البقاء" مجّد فيها الشيوعيين الروس كحركة قومية قبل أن تكون أممية ساهمت في جعل روسيا قوة عظمى وقطباً رئيسياً في العالم. ساهم بروخانوف في توحيد اليمين الروسي القومي والشيوعيين في تحالفات تعمل بشكل مضاد لليبراليين وأنصار النموذج الغربي. المفارقة أن الرجل استمد غالبية أفكاره من كتاب الكسندر دوغين "حرب القارات" وضمّنها في روايته الأدبية "السيد هيكسوجين" التي نالت الجائزة الكبرى للأدب.
العالم من منظور دوغين:
تُعتبر نظرية دوغين بالنسبة للشرق الأوسط أقرب إلى صمويل هنتينغيتون في "صدام الحضارات" فهو يقسم العالم إلى أربع مناطق متنافسة وهي الأميركية والأفروأوربية والباسفيكية الآسيوية والمنطقة الأوراسية التي يعتني بها بشكل خاص في نظريته، لذلك يقترح على روسيا التحالف مع ألمانيا في مواجهة القوى البحرية وإقامة علاقات مع اليمين هناك لتدعيم هذه الرؤية. يفترض دوغين، أن على روسيا السيطرة على كازاخستان وأوكرانيا ليدعما بدورهما الاتحاد الأوراسي، يمثل المثلث الجيو سياسي بين كييف وموسكو وأستانا إطاراً قادراً على ضمان الاستمرار. ولهذا أصبحت المفاوضات مع كييف عاجلة أكثر من أي وقت مضى.
تشترك روسيا مع كييف في الكثير من أوجه الشبه الثقافي واللغوي والديني، لذا يحب التركيز على هذه الجوانب لأن الخوف من روسيا والاتحاد مع روسيا قد تم الترويج له في اوكرانيا منذ سيادة الأخيرة. ومن هذا المنطلق تصير إيران مفتاح قلب العالم الإسلامي، الذي يضمن أمن قزوين، وخطوط التجارة البرية في آسيا.يرى دوغين أن تقديم إيران كقطب رائد للعالم الإسلامي من الأهمية بمكان مستفيداً من كون التيار الشيعي أكثر مقاومة وممانعة للتغريب والقوى الأطلسية من القوى الإسلامية السنية. ويستشهد بذلك في استعانة المعارضة السورية وغيرها بالقوات الأميركية في مواجهة "نظام الأسد".
رأى دوغين أن انهيار سوريا، سيولّد انهيارات متتابعة، أو ما يمكن أن يُطلق عليه "نظرية أحجار الدومينو" في الشرق الأوسط. الأمر الذي سيتح الفرصة للفوضى غير الخلاقة لتعمّ العالم القديم. ولأن أوروبا الحليفة – لا أوروبا الأميركية – لا بد من أن تكون قوية، فقد أتاحت أميركا من خلال الفوضى انتقال ملايين اللاجئين الذين سيدفعون القارة العجوز سياسياً إلى الوارء، ما يبطل الطرح الأوراسي.
يرفض دوغين فكرة عالمية الثقافة ووجوب احترام الثقافات القومية والمحلية للشعوب بل يدعوها إلى مواجهة أي تحدي لثقافاتها وموروثاتها فوفقاً لدوغين عرف العالم ثلاث نظريات سياسية كنتاج للحداثة، هي الليبرالية والشيوعية والفاشية وهو يقترح نظرية سياسية رابعة ليست وحدة تحليلها المركزية الأمة أو الفرد أو الطبقة بل ما يسميه بالوجود. وهي فلسفة متعالية تؤمن بعالم متعدد وأخلاقي بعيداً عن قيم المركزية الغربية المفروضة على العالم، كما تولي النظرية احتراماً خاصاً للدين والعائلة والتقاليد، وتقوم بإضفاء الصبغة الروسية على هذه النظرية في رفض الحداثة والقيم الأميركية والحفاظ على النزعة القومية الأرثوذكسية.
لدوغين كذلك موقف خاص من الليبرالية الغربية يجسده في مفهوم النوماخيا أي "حرب العقول"، فالثقافات المحلية والوطنية هي من تقوم بعملية التجديد والتطوير من داخل أنساقها المعرفية، كما يرفض في نظرياته التسلسل الحضاري وتصنيف أي حضارة بأنها عليا أو دنيا ويدعو قيام حوار ثقافي إنساني متكافئ بين الجميع لا يوجد فيه ما يعرف بالثقاقات المتقدمة والأخرى المتأخرة.
وفي إطار نظريته للتعددية القطبية يرى أن روسيا ليست القطب الثاني في النظام العالمي الجديد بل هي قطب من أقطاب متعددة في نظام متعدد المراكز. وما التعاون الصيني الروسي، والروسي الشرق الأوسطي، إلا أيدوليجيا قيمية تقوم على أساس مواجهة عدو واحد يسعى لفرض قطبيته الأحادية، وهو الولايات المتحدة الأميركية.
Related Posts
ناشط وباحث سياسي عربي من الخرطوم - السودان