Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

لا يدافع هذا المقال عن هادي مطر ولا يدينه - وهذه مثلبة قد تُسجل على المقال -، وهو ليس بصدد إقناع أي من الفريقين المختلفين في قضيته. لذا، بإمكانك عزيزي القارئ إن كنت حاسماً في إدانة أو تأييد مطر، الانصراف إلى ما يفيدك دون قراءة هذا المقال، وهذا لن يغير في واقعك شيئاً... أُؤكد لك.

بشار اللقيس

هادي مطر: كوّة في جدار السؤال

لا يدافع هذا المقال عن هادي مطر ولا يدينه - وهذه مثلبة قد تُسجل على المقال -، وهو ليس بصدد إقناع أي من الفريقين المختلفين في قضيته. لذا، بإمكانك عزيزي القارئ إن كنت حاسماً في إدانة أو تأييد مطر، الانصراف إلى ما يفيدك دون قراءة هذا المقال، وهذا لن يغير في واقعك شيئاً... أُؤكد لك.

***

إذا كان من سمة يمكننا تتبعها في الكتابات التي قُدمت حول حادثة طعن رشدي فهي سمة الخضوع؛ خضوع الكتّاب لمسبقات الموقف من الدين، الغرب، الثقافة، والأهم - وهذا هو الجديد – مسبق اسمه الجمهور أو "ما يتمناه القرّاء". واقعاً، كانت صحيفة الأخبار الأكثر وضوحاً في هذه المسألة. دافعَت الصحيفة في اليوم، أو اليومين الأولين، عن رشدي من زاوية حرية الرأي. ثم ما لبثت أن تنبهت لضرورة تعديل "وجهتها الثقافية" وقراءة رشدي من زاوية فوكوية باعتباره جزءًا من منظومة هيمنة غربية بعد نقد لاذع تعرضت له ( تخيَّلوا، يحدث في واقعنا اليوم أن ينسى المرء يوماً زاوية من زوايا المقاربة الثقافية ثم يتذكرها بعيد يومين). تكشف "مغامرة" الأخبار تلك عن مسألتين نعيشهما اليوم: 1- هامشية الثقافة، إلى النحو الذي يخوّل صحفياً الاعتقاد أن استقلاليته الثقافية لن تستفز الجهة الممولة أو الراعية. 2- ضيق مساحة الرأي إلى حدوده القصوى عند الجمهور، وللمسألتين وجه سياسي وثقافي.

تحيلنا مثل هذه المسألة لإعادة قراءة الصحافة بنحو جديد. إن المحاصَر الوحيد في هذه المهنة هو الكاتب نفسه. يقوم الكتاب الصحافي اليوم بما يشبه دور أعيان المدن أواخر الفترة العثمانية وأوائل مرحلة الانتداب في منطقتنا. "السياسة كانت بالنسبة إلى هؤلاء فعل توازن دقيق" ينقل فيليب خوري. كحال أعيان المدن يدير الصحفي توازناً سياسياً دقيقاً بين القراء وأهل القرار. لم يعد بمقدور الصحافي الظهور بمظهر من يعارض مصالح الممول لخوفه من أن يُحرم من علاقته بالأخير، ولا هو بإمكانه تهميش رأي قارئيه، ذلك أن خسارة قارئيه يهدده على الدوام بخسارة قاعدته وفائدته بالنسبة إلى الراعي السياسي. عند هذا الحد يمكن فهم الكثير من الرأي والرأي الآخر في صحافتنا اليوم. الصحافة محاصرة بتوازن دقيق، والصحفيون اليوم أشبه بما كانت تسميه الكاتبة الليتوانية إيما غولدمان يوماً بـ"بائسي البروليتاريا الثقافية". "يتعلق أفراد البروليتاريا الثقافية بطواحين الاقتصاد، ويعاني أبناء هذه الفئة من ضيق مساحة الحرية إلى نحو تقل فيه حريتهم عن حرية العاملين في المتاجر والمناجم. لقد أنفق أبناء هذه الطبقة جلّ حياتهم في مهنة كلّفتهم ضمور كل قدراتهم الإنسانية. فهم من ثم، لا يصلحون لأي عملٍ آخر سوى ذلك الذي دُربوا كالببغاوات على تكراره" تقول غولدمان.

 

أين المشكلة؟:

بالرغم من تشريح غولدمان لخصائص "البروليتاريا الثقافية" وسماتها، إلا أن مشكلة الصحافة اليوم تتجاوز مشكلة الطبقة العاملة فيها بنحو كبير. أدبيات جورج لوكاتش (1885- 1971) قد تبدو أكثر إسعافاً في الإجابة عن المشكلة. في كتابه "دراسات في الواقعية" تنبّه لوكاتش لتمركز الأدب الأوروبي حول الذات والاندفاعات الشعورية بعيداً عن متغيرات التاريخ والحياة الاجتماعية والأخلاقية. رأى لوكاتش في الأدب الأوروبي الواقعي تجزيئاً للإنسان وانعكاساً للرأسمالية التي تفصِل داخل الإنسان عن خارجه، كما رأى في الرواية الأوروبية ملحمة بورجوازية تُفضي إلى تشييء المجتمع الصناعي. وبالرغم من ترجمة الكثير من أعماله في النقد الأدبي إلى العربية، إلا أن أياً من المثقفين لم يقم باستنبات مقاربة لوكاتش عربياً؛ هل تقوم الثقافة العربية ومعها الصحافة بنفس الدور الذي قام به الأدب الأوروبي؟. بمعنى آخر، هل من الممكن قراءة فضاء الصحافة العربية باعتبارها ملحمة برجوازية تُفضي إلى تشييء المجتمع العربي؟. إن نظرة سريعة على الصحافة في تاريخنا السياسي الحديث ستفضي إلى القول أن الصحافة لم تكن يوماً فعلاً مقاتلاً بقدر ما كانت خياراً مُلحقاً بطبقات اجتماعية محددة في أحلى أحوالها. فمنذ الرابع عشر من حزيران/ يونيو عام 1800، تاريخ أول اغتيال سياسي في تاريخنا الحديث (أي عندما طعن سليمان الحلبي قائد الحملة الفرنسية في مصر الجنرال جان باتيست كليبر وصديقه المهندس المعماري بروتان) لم تتخذ الصحافة درباً مستقلاً ولا مقاتلاً. رواية عبد الرحمن الجبرتي في "تأريخه للحملة الفرنسية على مصر" كانت أنموذجاً عن رؤية المثقف/ الكاتب العربي لفعل المقاومة. يحيل الجبرتي السبب الذي أدى بالحلبي إلى قتل "كليبر" إلى الإنكشارية الذين أذاعوا بين الناس أن من يقتل قائد الحملة الفرنسية سينال رتبة مقدم في الجيش العثماني، فتطوع الحلبي للمهمة وهذا كل ما في الأمر. في سورية لم يكن الحال "أنظَم" بكثير، حتى عندما قام ثوار "الشاغور" بمحاولة اغتيال الجنرال موريس ساراي في قصر العظم، كان جيش من "الكتَبة الوطنيين" وعلى رأسهم محمد كرد علي ينعت الثوار والمتعاطفين معهم بالرعونة السياسية، ويهدد أخاه أحمد من نشر أي مقال في "المقتبس" يعبر عن "تعاطف ما" مع الثورة.

 

كوّة في الجدار:

بالرغم من الحضور القوي لإدوارد سعيد و"استشراقه" في البيئة الأكاديمية العربية – اليسارية تحديداً – ظل الحضور الرمزي للمثقف في وعينا العربية قرين التصور الليبيرالي. يجلس المثقف ومن خلفه مكتبة أكاديمية كبيرة ليخبرنا عن واقعنا ومآلاته وفق أنساق فهم غربية خالصة (لاحظوا التشابه بين صورة إدوارد سعيد ومن خلفه المكتبة وصورة عزمي بشارة في الوضعية نفسها). وبالرغم من سعي سعيد للخروج من ربقة الغرب وسطوته على المستعمَر، إلا أن نقده ظل أسير التفسير الثقافي لبنية النظام العالمي القائم باعتبار الأخير تمثيلاً لفكرة الغرب، لا باعتبار الاستعمار ونقده نتاج عن فعل أو ممارسة كونية حية. لذا لم يكن صعباً على المؤسسة الأكاديمية الغربية استيعاب سعيد، و"هضم" مقاربته ضمن فضاء الأكاديميا الرأسمالية، وهو ما تنبه إليه إعجاز أحمد في كتابه "في النظرية: طبقات، أمم، آداب".

لقد فتح هادي مطر كوة في جدار السؤال لمن يريد أن يسأل. وإنه لمن المعيب على الصحافة والمثقف اختصار الحادثة بالعنف الإسلامي في امتثال لخطاب استشراقي يعفيه من السؤال ومن الإجابة (أحد الكتاب "الأصدقاء" عبّر عن رعبه من العنف الإسلامي وأنه لم يعرف النوم منذ سمع خبر ما قام به مطر. حسناً، هو ينام نوماً عميقاً لرؤيته العنف "الإمبريالي – العلماني" الغربي ولا يشعر بما يقلقه البتة لرؤيته البوارج الحربية الغربية تدك شعوبنا لعقود!). وأياً يكن موقفنا مما فعله مطر، ثمة سؤال: لماذا لم يُقرأ هادي مطر باعتباره امتثالاً لقلق في الهوية تعيشه كل "الجماعات الثقافية غير الغربية" في الغرب الرأسمالي؟. لماذا لم يُقرأ فعل الشاب باعتباره رد فعل على عنف رمزي تعيشه مجتمعاتنا لقرون؟. وبالأصل، لماذا تفتقد المدونات العربية لقراءة نقدية – ولو يتيمة – لما قدمه سلمان رشدي باعتباره أدباً إخضاعياً لشعوبنا وجزءًا من ماكينة الإخضاع العامة للإمبريالية؟. مرة جديدة، هو كسل المثقف الذي يأنس بالأجوبة الناجزة، ومرة جديدة، هو كسلنا نحن منذ أن صارت الثقافة رهينة "ما يتمناه الجمهور وما يسمح به أهل القرار".

 

رئيس تحرير صحيفة الخندق