Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

يولد لاعب كرة القدم في مخيلة أبناء الضواحي المهمشين في مهد من القش أو كوخ من الصفيح، وتولد إلى جنبه الكرة. وكما الإنسان البروميثي (المولود من ضعف دون أنياب أو مخالب) يمضي هذا الطفل مذ يصير فتى في ابتكار ما يحمي به نفسه. البهجة إبداع الفتى الفقير والمتعة حصنه وحصافته. يُبهج الفتى في سنوات عمره المبكرة الأزقة ومجاهل الضواحي كل يوم إلى أن يخيم الليل. ثم يركض خلف الكرة سنين تعِباً إلى أن تقبّل الريح قدمه

بشار اللقيس

في مديح كرة القدم

من يصوغ المدينة؟ أو كيف تُصاغ المدينة في عالم اليوم؟. يعود هذا السؤال إلى الأنثروبولوجي الماركسي هنري لوفيفر في كتابه ذائع الصيت "الحق في المدينة – 1968". في نقده المدينة والحياة اليومية ذاك، قدم لوفيفر نقداً للبنيوية التي هيمنت كمنهج ورؤيا على الخطابات العلمية أواخر الستينيات. كان لوفيفر يتطلع من خلال نقده المدينة إلى نقد البنيوية اللسانية التي تجلت في أعمال دوسوسير من خلال تأويل المدينة كنصّ اجتماعي، وهو ما سيُعرف في ما بعد بالـ"هرمينوطيقا المدينة".ا

في هرمانوطيقيا المدينة، تُعطى الأولويّة للمهمشين من فاعلي الهوامش والأماكن على حساب المدينة المركزيّة، أو فكرة المركزيّة في حدّ ذاتها (ميشيل أجيي - أنثروبولوجيا المدينة). المدينة نص مفتوح غير متناهي الدلالات. تكتب المدنية على جدرانها، وفي طرقاتها، إشارات ورموزاً (ملصقات وإعلانات ورسوماً) لكن هذه الكتابة لا تكتمل. المدينة نص مفتوح. حكايات الناس الصغرى في المدينة عن تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم غالباً ما يُعاد إنتاجها بشكل دائم ومستمر. تنتشر في المدينة عشرات نقاط الالتحام والقطيعة بين الزمن الفيزيائي والزمن النفسي للناس. لذا هي تعيد إنتاج الذاكرة،الحاضر، والمستقبل باستمرار. في المدينة تدافع الناس عن أسلوب معيشتها، وطريقة عيشها التي يحددها مكان السكن بنحو كبير (قل لي أين تسكن في المدينة أقول لك من أنت). في المدينة تعيد الناس تأويل الذات من خلال تبادلية الزمن المحكي والفضاء المبني. في المدينة ندرك أن الكائن المتكلم والكائن الساكن ذاتاً واحدة. وأنهما في حالة انتقال وارتحال على الدوام.ا

بحسب لوفيفر، تلك هي المسألة التي لم يفهمها منظرو اليسار. فمع نمط الإنتاج المديني الممتد إلى الأرياف منذ أواسط القرن التاسع عشر، لم يعد بالإمكان الحديث عن ثنائية الريف - المدينة كما تخيلها الاشتراكيون التقليديون. فعلى عكس ما توقع إنجلز ومن قبله شارل فورييه، وروبرت أوين، ومن ثم مجمل أدبيات الماركسية القرن التاسع عشر من تعارض الريف والمدينة، وضرورة ضبط المدينة التي ستحوز وحدها وسائل إنتاج، أفضت الحداثة المدينية الجديدة إلى تفجر الأرياف وتمدنها وترييف المدينة وتحجّرها بنحو أكثر تعقيداً مما تخيله هؤلاء، الأمر الذي أنتج هويات أكثر تفكيكاً وتركيباً من الهويات الطبقية الصرفة. والأهم، أنه أنتج قوة خيال سياسي ريفي نافذ على مستوى العالم لم يُدرس بما فيه الكفاية إلى اليوم.ا

تعود أفكار لوفيفر تلك إلى مرحلة الاكتشافات النفطية في جبال البرانس في فرنسا بداية الخمسينيات، وتحول الأماكن الفلاحية إلى مركبات صناعية حضرية هناك (وهو ما استشعره لوفيفر كتحول خطِر لم يأخذ حقه في الدراس قط). في الحقيقة، لم يكن التحول عن المركز منحصراً في فرنسا وحدها، كما أن أزمة الريف الفرنسي لم تكن فرنسية البتة. بإمكاننا لحاظ التحول الآخذ في الأرياف في نفس تلك المرحلة في البرازيل، تشيلي، إيران، تركيا، الهند، لبنان، سورية، العراق، وغيرها من الدول. كان النزوح سمة عقدي الخمسينيات والستينيات. وكان الريف الطاقة السياسية المهددة بتغيير خرائط السلطة في كل تلك الدول/ البلدان.ا

من الحق في الحياة إلى الحق في المدينة:ا 

ولد اللاعب البرازيلي بيليه (إدسون أرانتيس دو ناسيمنتو) سنة 1940، وسط عائلة فقيرة في تريس كاراكوس، إحدى ضواحي مدينة ميناس جرايس، لأب يلعب في نادي فلومينينسي دوندينو. كان أكبر شقيقين. لُقب من قبل عائلته في الأصل بـ"ديكو". قبل أن يحصل على اسم "بيليه" تأسياً بلاعبه المفضل، حارس مرمى فاسكو دا جاما بيليه. عمل بيليه في طفولته كخادم في المقاهي، وغالباً ما كان يلعب بجورب محشو بورق جرائد. في نيسان/ أبريل 1975، زار بيليه بيروت لمشاركة نادي النجمة مباراة ودية ضد منتخب جامعات فرنسا في المدينة الرياضية. فور هبوط طائرة اللاعب البرازيلي، تقاطر أطفال "حي السلم" (وهو حي شعبي في ضاحية بيروت الجنوبية) سريعاً لمشاهدة نجمهم عن قرب. ركض الأطفال حفاة بالقرب من موكب بيليه حتى فندق السان جورج وسط بيروت فرحين به. بيليه لم يكن لاعب كرة قدم بالنسبة لهم. بيليه كان رمزاً لحقهم في المدينة. بيليه كان نبيهم الخارج من الفقر.ا

يولد لاعب كرة القدم في مخيلة أبناء الضواحي المهمشين في مهد من القش أو كوخ من الصفيح، وتولد إلى جنبه الكرة. وكما الإنسان البروميثي (المولود من ضعف دون أنياب أو مخالب) يمضي هذا الطفل مذ يصير فتى في ابتكار ما يحمي به نفسه. البهجة إبداع الفتى الفقير والمتعة حصنه وحصافته. يُبهج الفتى في سنوات عمره المبكرة الأزقة ومجاهل الضواحي كل يوم إلى أن يخيم الليل. ثم يركض خلف الكرة سنين تعِباً إلى أن تقبّل الريح قدمه، فيولد مرة أخرى كبطل محلي. ولاعب الكرة في عيون محبيه، وباستعارة من إدواردو غاليانو، وقحٌ ومستهتر أيضاً. هو يخرج على النص ويقترف حماقة القفز عن فريق الخصم، وعن الحكم، وجمهور المنصة، لمجرد متعة الجسد المنطلق في مغامرة الحرية المحرّمة. الهدف عيد كرة القدم. والهدّاف صانع الأفراح والأعياد، وتلك ميزة أخرى لتعلق الفقراء به.ا

والكرة بالنسبة إلى الريفيين القاطنين في ضواحي المدن هي أول فعل سياسي تشاركي. الكرة الممتِعة منتج المدينة المجاني الوحيد. ومشاركتهم لها هي التوطئة الضرورية لحق النازحين في الحياة. ذاك هو "الدين" الذي يجمع ضواحي ميناس جرايس بضواحي بيروت.ا

في ميناس جرايس وضواحي بيروت كان الفقراء يهربون من بيوتهم إلى الملعب. هناك (في الملعب) ترفرف الرايات تدوي النواقيس والطبول. هناك تختفي المدينة ويُنسى منطقها ليحتفي الفقراء بنظرائهم على المدرج في حفلة هروب جماعية من عنف المدينة وتغوّلها. لا شيء في الملاعب غير معبد الشغف الجميل. وفي هذا الحيز المقدس المسمى ستاد/ ملعب، ثمة ديانة وحيدة لا وجود لملحدين بين معتنقيها. في هذا المعبد المقدس يشاهد الفقراء المعجزة؛ يرون ملائكتهم بلحمهم ودمهم يستنطقون الكرة. في هذا الملعب المقدس أيضاً يشعر كل المجهولون - المحكومين بالتجاهل دوماً - أن بإمكانهم أن يكونوا أحداً ما. في هذا المعبد يتحول الخائف إلى مخيف، والمُهان إلى مهين للآخرين، وتلك قسمة عادلة بين أصحاب الحظوة والحفاة.ا

***

لكرة القدم لغتها. وليس من الغرابة أن توصف باعتبارها نشاطاً كونياً عابراً للحدود. في كتابه "كرة قدم الأمم: من الملاعب إلى المجتمعات المتخيلة" يعود ستيفان بود إلى نوربرت إلياس في استقرائه العلاقة المتوترة بين الدولة القومية وكرة القدم. فعلى النقيض من فكرة الدولة، التي عززت فكرة التقسيم الاجتماعي، يلحظ بود أسوة بإلياس مساهمة كرة القدم في ولادة "مجتمعات متخيَّلة" للأشخاص العاديين منذ أواخر القرن التاسع عشر. كانت الأندية فضاءات غير منضبطة للذاكرة والتواصل بين الجماهير وهو ما لم تستسغه البيروقراطيات الوطنية، لا سيما البريطانية (حيث مولد هذه اللعبة). تُفسر العلاقة المتوترة بين كرة القدم والدولة تأخر بريطانيا في الاهتمام بالمنتخب الوطني حتى أوائل القرن العشرين، كما ويُفسر إعراض بريطانيا لفترات طويلة عن المشاركة في تأسيس اتحاد دولي للعبة. روسيا القيصرية بدورها كانت تبغض كرة القدم وتنظر إليها بعين الريبة. ورث الاتحاد السوفياتي هذا البغض لـ"اللعبة البرجوازية" ونشطت اتحادات الشباب التابعة للشيوعيين في محاربة أي بادرة كروية لفترات طوال. فرنسا هي الأخرى لم تكن أفضل حالاً. وبالرغم من عملها لتأسيس اتحاد دولي لكرة القدم منذ عام 1904، إلا أنها كانت تتخوف من الأندية ومفاعيلها الهوياتية لعقود؛ ماذا لو أسس ذوي الأصول الجزائرية نادٍ خاص بهم؟. لقد منع الاستعمار الفرنسي في الجزائر أهل الجزائر من أن يؤسسوا ناد لهم حتى عام 1947. وحتى عندما بدأت جمعية شلِف الأهلية بالعمل على تأسيس أول فريق لكرة القدم (فريق جبهة التحرير الوطني)، حرم الاستعمار أبناء الجمعية من اللعب في مدينتهم. كان الجزائريون يلعبون في حقول قمح الفيرم (حي من أحياء مدينة شلِف)، وكان أكثر ما يزعج الدوريات الفرنسية المؤللة أصوات أطفال الجزائر الراكضين خلف الكرة في سهول القمح هناك. مرة جديدة كانت كرة القدم نوع من الحق في الحياة وفي المدينة بالنسبة إلى الجزائريين.ا

ما بين تلك المرحلة ويومنا وقع الكثير. تحول اللعب معه إلى استعراض قلة من الأبطال وكثرة من المشاهدين. ما بين تلك المرحلة ويومنا أخرجت اللعبة من ملاعبها "سقراط دي أوليفيرا" (قائد منتخب البرازيل اليساري في الثمانينيات) الذي فضل العودة إلى ممارسة مهنته كطبيب في اعتراض صارخ على "تسليع اللعبة". وحده سقراط وعى خطورة أن تمسي اللعبة "كرة قدم للنظر". ووحده خاف على الكرة من نفسها. لقد تحولت كرة القدم من مؤسسة للفرح واللعب إلى "تنظيم من أجل منع اللعب" مذ راح تكنوقراط الرياضة يفرض كرة قدم بسمات محددة.ا 

تعتمد كرة القدم الراهنة على السرعة المحضة، القوة الكبيرة، وتستبعد الفرح وتستأصل المخيلة، وتمنع الجسارة. ذاك ما أرادته أوروبا منذ أواخر السبعينيات. وربما هي صدفة تدعو للتأمل تلك العلاقة المضطردة بين صعود النيوليبيرالية والاستثمارات المهولة في كرة القدم الأوروبية. تحاول الرأسمالية احتواء الفرح ومركزة المتعة في فضائها. كما يلعب رأس المال الغربي دوره في بنية الكرة وفضائها لتلائم ظروف الإنسان الرياضي الغربي حصراً. كرة القدم بهذا لم تعد لعبة محايدة حتى في أكثر لحظات حيادها التي نعتقد. وشرائط الجهد العضلي المطلوب لاحترافها لا يمكن النظر إليه بمعزل عن الجهد العضلي النازف كفائض قيمة عمل من قِبل مزارعي قصب السكر وأشجار الكاكاو في غانا، والهند، وكولومبيا، وإندونيسيا لصالح رعاة رأس المال الرياضي في أوروبا. احتفائيات كرة القدم ودورياتها لم تعد محايدة بالنحو الذي نتصوره هي الأخرى (هل كان لقطر أن تفوز باستضافة كأس العالم عام 2010، لولا تطلع إدارة أوباما للقوة "الإسلامية" كقاعدة أمثل لاستيعاب الليبرالية في منطقتنا؟). لكن هذا كله لا يمنع الفقراء من أن يتجاسروا على اللعبة مرة بعد أخرى. كما أن هذا كله لا يمنع الفقراء من أن يتجاسروا على الرأسمالية بحدودها وفرائضها. من كان يتخيل أن تسترد كرة القدم في كأس العالم سنة 1994 ما فقدته الشعوب من خيالها بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي؟. من كان يتخيل أن مولوداً في ضواحي بلوفديف (ثاني أكبر مدينة بلغارية) اسمه خريستو ستويتشكوف (هدّاف كأس العالم لعام 1994)، سيعيد للشيوعيين في شرق أوروبا ثقتهم في أنفسهم وفي أن للرأسمالية أيضاً عيوبها. أو من كان يعتقد أن هدفاً للاعب المكسيكي كلاوديو سواريز سيفضي لانتفاضة هنود المايا في منطقة تشيباس في المكسيك ليوجهوا صفعة للمكسيك الرسمية الملحقة بأميركا. من كان يقول أن مولوداً في حي جاكاريزينيو البائس في البرازيل، واسمه روماريو، سيعيد للاشتراكية زخمها في البرازيل بعد سنوات قليلة بوقوفه (مع زميله بيبيتو) إلى جانب لولا دا سيلفا؟. في كأس العالم سنة 1994، لعبت الأورجواي لتقول أن خوان كارلوس أونيتي، روائي البئر وظلال الروح، لم يمت بعد. ولعب الجميع ليقولوا للقوات الأميركية أن الجوع لا يواجه بالرصاص في الصومال. لكرة القدم لغتها. هي حقنا في الحياة يقول ستيفان بود، وهي حقنا في أن نصوغ المدينة اليوم.ا

 

رئيس تحرير صحيفة الخندق