استفسر طفل أردني مرة عن مسائل فقهية وعقدية فجالسه السيد لثلاث ساعات متواصلة شارحاً ومبيناً في أحد غرف مقام السيدة زينب. لم يكن ذلك الأمر معتاداً لدى الناس
فضل الله والأخلاق المعرفية
استفسر طفل أردني مرة عن مسائل فقهية وعقدية فجالسه السيد لثلاث ساعات متواصلة شارحاً ومبيناً في أحد غرف مقام السيدة زينب. لم يكن ذلك الأمر معتاداً لدى الناس. هم لم يعتادوا مرجعاً يصلي يومياً في المسجد، يبني عشرات المؤسسات للأيتام وذوي الحاجات الخاصة، يستضيف وسائل الإعلام العربية والأجنبية فيتكلم في أعقد المسائل الإنسانية المعاصرة. ورغم علم السيد بالفقه والعقيدة والتفسير والفلسفة إلا أن هذا العلم لم يبق حبيس الكتب بل نزل إلى الشارع ليواكب الهموم والطموحات بأخلاقية معرفية نادرة، فكان يقول: "أنا أقرأ مئتي كتاب يومياً، لأني أناقش مئتي شخص في اليوم الواحد".
هذا جانب من شخصية السيد، ولأن مقالاً لا يكفي للإحاطة بجميع جوانب شخصيته، فسنحاول عرض ملامح من أخلاقه، وبالأخص "أخلاقياته المعرفية"؛ أي أدبيات فهمه المعرفي وأخلاقياته في الاعتقاد والاختلاف.
مرحلة السيد موسى الصدر
كانت علاقة السيد فضل الله بالسيد موسى الصدر ممتازةً منذ وجودهما في النجف الأشرف إلا أن تلك المودة الشخصية الخاصة لم تمنع فضل الله من طرح آراح مخالفة لآراء الصدر. فضل الله الذي كان يشارك الصدر في الأفق العام للمشروع النهضوي في لبنان عارض الصدر في مسائل جوهرية، منها إشكاله على النهج الجماهيري الذي اعتمده الصدر مع الناس قبل بناء الكوادرالشيعية المؤمنة. فالكوادر التي يجب أن تغير الواقع الاجتماعي –السياسي، والثقافي، للجماهير بنظر فضل الله ينبغي أن تكون مبنية بناء عقائدياً متيناً قبل إطلاقها. نقطة أخرى سجلها السيد فضل الله هي تأسيس الصدر للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. إعتبر السيد أن المجالس الملية تساهم في تكريس الطائفية في الوقت الذي يجب أن نعمل فيه على تذويب الحالة الطائفية الموجودة في لبنان.
وجهات النظر المختلفة بين السيدين لم تدفع بهما إلى إقصاء بعضهما البعض، بل كان كلٌّ يعمل وفق رؤيته مع مراعاة المودة والإحترام والتقدير للآخر. ففضل الله لم يتوانَ عن ثناء السيد الصدر في الخطب والمحاضرات حتى قال أن الصدر سبق أقرانه في رؤيته للوضع اللبناني 40 عاماً. اللافت أن هذا الثناء كان حتى أثناء المعارك التي حصلت ببن الثنائي الشيعي في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي حيث كانت العلاقة متوترة بين قيادة حركة أمل والسيد فضل الله.
مرحلة الثورة الإسلامية وحزب الله
قام نظام الجمهورية الإسلامية في إيران على نظرية ولاية الفقيه المطلقة. لم يؤمن السيد فضل الله بها (يتبنى السيد فضل ما يُصطلح عليه بالولاية الحسبية أو الخاصة للفقيه). عموماً، كان من المفروض أن يُفضي هذا الإختلاف في النظرية الشرعية إلى تباين في رؤية المشهد السياسي بين فضل الله والقيادة الإيرانية. فالسيد لم يتبنّ الدعوة لإقامة جمهورية إسلاميّة في لبنان، واعتبر أنّ للبنان خاصيّة طائفية معينة تجب مراعاتها. كما دعا الحزب منذ البدايات للعمل من داخل النظام والمشاركة في الانتخابات النيابية. إلا أن ذلك التباين لم يؤثر على العلاقة العميقة بينهما.
ينقل مسؤول التشريفات في منزل الإمام الخميني أنه، وبعد جلسة نقاش بين الإمام الخميني والسيد فضل الله ظهر فيها تباين واضح في وجهات النظر، أمرالإمام بتسليم السيد مبلغاً كبيراً جداً من المال دعماً للحوزة الدينية التي يديرها في لبنان. بدوره كان السيد فضل الله داعماً أساسياً للثورة والإمام الخميني إلى درجة قوله "إن الشهادة بين يدي الإمام الخميني كالشهادة بين يدي الإمام الحجة لأن القضية هي القضية والرسالة هي الرسالة، والتحدي هو التحدي". الأمر ذاته نراه في العلاقة مع حزب الله فمنذ بداية عمليات المقاومة أيد السيد الحزب تأييداً مطلقاً فكان المرشد الروحي له في الوقت الذي لم تجرؤ فيه كثير من العمائم على الإفتاء بالجهاد ضد "إسرائيل".
موجات التضليل والتزوير
بعد طرح السيد مرجعيته عام 1995، ومع إنتشار آرائه الفقهية والعقدية والتاريخية كمسألة عمد اشتراط الأعلمية في التقليد، ووضعه لتساؤلات تخص "سرديات المذهب". إنهالت موجات التضليل والتزوير من خلال اتهام السيد تارة بإنكاره لعقائد الإمامية، وتارة بعدم إجتهاده وعدم أهليته للمرجعية. وصل الأمر بالبعض إلى الإفتاء بضلال السيد وحرمة القراءة والترويج لكتبه. الأمر الذي خلق ردة فعل سلبية لدى كثير من الجماهير الشيعية تجاه السيد الذي تحسر على تضليله دون قراءة كتبه، واعتماد المُفتين بضلاله على كلام مقتطع ومحرّف عن موضعه. هذا الأذى لم يدفع السيد إلى المعاملة بالمثل، بل أصر على أن "الحقيقة بنت الحوار"، محرماً ذكر هؤلاء العلماء بسوء في مجلسه، معتبراً أن أي فعل يربك الساحة الإسلامية مرفوضٌ قطعاً، كما سامح الناس الذين "هتكوه" فقال: "أنا مسامح لمن اغتابني ويغتابني وسيغتابني، ولن أكون عثرة في طريق مؤمن إلى الجنة".
فلنقرأه من جديد
السيد الراحل من الرجال الذين يصعب قطع الطريق إلى قممهم والإستطالة إلى قاماتهم. ومع ذلك لا بد من الإقتداء بهم، وجعلهم أمثلة فاعلة في حياة الأمة. لقد كانت كل حياة السيد لله بعيداً عن الساحة التي يتصارع فيها الملايين. هذا ما دلت عليه سيرته، وعيه، نضجه. أبى الرجل الكبير أن يدخل معارك الطين والأرض وحلبة الصراع وسباق التنافس على المناصب والشهرة.
رحل السيد فضل الله. ومن واجبنا اليوم أن نقرأه من جديد، أن نفهمه بعيداً عن البغضاء والتعصب. ولعل في كلمات نعى السيد نفسه بها، ما يمكن أن يرشدنا عندما قال: "إنّ هذا الإنسان عاش حياته منفتحاً على الرسالة منذ أن فتح عينيه على الحياة، وعمل على أن يتحرّك في خطوطها حتى في بداية طفولته وشبابه، وعانى وتألم في درب الرسالة، وكان يحاول أن يكون صادقاً ومخلصاً. ربما كانت النفس الأمّارة بالسوء تأخذ عليه ما يأمله. لكنّه أكمل الرسالة بحسب طاقته، وواجه الكثير من العنت والتعسف مما يواجه الرساليين. لذا حاوِلوا أن تفهموني جيداً، فإذا كان البعض لم يفهمني في حياتي، لأنّ التهاويل والانفعالات والتعقيدات قد حجبت وضوح الرؤية، لكن عندما يغيب الإنسان عن الساحة، ويشعر الآخرون بالأمن من تعقيدات وجوده عليهم، عندئذ يمكن أن يفهموه أكثر، وأن يستفيدوا من تجربته أكثر".
Related Posts
كاتب لبناني