Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

عشر سنوات مرّت على القطيعة بين الدولة السورية وحركة المقاومة الاسلامية في فلسطين، "حماس". جرت خلال تلك السنوات العشر مياه كثيرة في الاتجاهين، إنْ لجهة المصالحة، أو لجهة توسيع الشرخ، خصوصاً مع توفّر الكثير من أسباب وموجبات الوفاق والفراق على السواء

جو غانم

بين دمشق وحماس: فلسطين أولاً وأخيراً

عشر سنوات مرّت على القطيعة بين الدولة السورية وحركة المقاومة الاسلامية في فلسطين، "حماس". جرت خلال تلك السنوات العشر مياه كثيرة في الاتجاهين، إنْ لجهة المصالحة، أو لجهة توسيع الشرخ، خصوصاً مع توفّر الكثير من أسباب وموجبات الوفاق والفراق على السواء، وذلك قياساً بالوقائع  الكبرى والمصالح الأكبر، وبالمشاريع الخارجية والقائمين عليها من دول وحكومات وتنظيمات وشخصيات وإعلامٍ وإعلاميين تابعين يشتغلون على جبهة الوعي العربي، وبمشاريع المقاومة المضادة التي تدافع عن آخر ما تبقى من كلّ شيء ثمين وعزيز، وعن استعادة كل ما تجب استعادته للتحرر والنهوض.

ففي نظر الدولة السورية وجمهورها في الداخل والخارج، إنّ ما أقدمت عليه "حماس"، يصعُب القفز فوقه واعتبار أنّه لم يكن، خصوصاً أنّ مشروع "الربيع العربي" الأميركيّ كان واضحاً في سوريا أكثر من أي مكان آخر، وقد عبّرت الأدوات السورية مبكراً عن هذا الأمر في العلن، حيث أعلن برهان غليون على إحدى القنوات التلفزيونية العربية، عقب تسلّمه رئاسة "المجلس الوطني السوري"، أنّ أبرز أهداف "الثورة" هو أخذ سوريا إلى الضفة الأخرى، وقطع كلّ علاقة لها مع طهران وحركات المقاومة في المنطقة، بينما أعلن الناطق باسم ما سُمّي حينذاك ب"الجيش السوري الحرّ"، أنّ الهدف التالي بعد إسقاط "النظام" في دمشق، هو "تخليص اللبنانيين من حزب الله"، وذلك قبل أنْ يظهر أيّ مقاوم لبناني على الأرض السورية، بل في الوقت الذي كان فيه الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، يعرض استعداد الحزب للتوسط بين الحكومة السورية والمعارضة، لما فيه خير الشعب والدولة في سوريا. إذاً، لقد كانت المقاومة هي المستهدفة في سوريا الدولة، وفي الإقليم كله، لمصلحةٍ إسرائيلية بحتة، فما الذي يدفع حركة مقاومة تحظى بوضع غير مسبوق في تميّزه في سوريا، لجهة الرعاية والإمداد بكلّ ما أمكن من تدريب وتسليح وحماية سياسية، أنْ تعمل ضد نفسها، وتنغمس بشكل تدميريّ مؤلمفي مشروع يهدف إلى القضاء عليها نفسها غداً، بما تمثّل وبما تدّعي.

وبناءً عليه، ظهر للسوريين جليّاً أنّ القيادة السياسية للحركة، اختارت أنْ تكون جزءاً من تنظيم "الإخوان المسلمين" العالميّ بالدرجة الأولى، بما يعنيه ذلك من انخراط الإخوان بشكل كبير في المشروع الدولي الجديد الذي قد يفضي إلى تسليمهم الحكم في بلدان المنطقة، تحت الرعاية الأميركية، والتي لا يمكن لها أنْ تعني أيّ شيء سوى: السيادة الإسرائيلية في المنطقة. وقد حرصت القيادة السورية على التعبير عن هذا الأمر بعد كلّ سؤال عن العلاقة مع "حماس"، والتمييز بين دعمها الثابت والمبدئيّ للمقاومة، وخلافها الجذري مع الأحزاب والتنظيمات التي فضّلت الانجرار وراء مصالحها الحركيّة السلطوية، على حساب القضايا الوطنية الكبرى التي تنطلق منها دمشق في تحالفاتها، وفي دفاعها عن نفسها وعن خياراتها.

وقد عبّر الرئيس السوري بشار الأسد عن هذا الموقف غير مرة، ولعلّه كان واضحاً جدّاً حين قال في العام 2016، ردّاً على سؤال حول العلاقة مع حماس: "كنا ندعم حماس، ليس لأنهم إخوان، كنا ندعمهم على اعتبار أنهم مقاومة" لكنهم فضّلوا أنْ يتصرفوا كإخوان مسلمين.

بالنسبة للقيادة السياسية لحركة "حماس"، فقد كان التبرير يتوقف عند "الوقوف مع الشعب السوريّ"، وهو تبرير لا يملك أيّ منطق سليم في المحاكمات السياسية ودراسات الواقع وآفاقه، خصوصاً أنّ الحركة اصطفت مع جزء من الشعب السوري، اختار قتال الدولة السورية وجيشها وشرائح واسعة من شعبها، لصالح مشروع واضح المعالم. لقد كانت الأمور واضحة جدّاً على الأرض السورية، بحيث لم تترك مجالاً للّبس أو المخاتلة، أو مساحةً للعب في المنتصف، الأمر الذي ترك ألماً كبيراً لدى هؤلاء السوريين الذي تدمّرت بلادهم، وخسروا عشرات الألوف من خيرة أبنائهم.

صحيحٌ أنّجهوداً قد بُذلت من قِبل أطرافٍ في محور المقاومة، لترميم العلاقة بين دمشق وحركة "حماس"، منذ العام 2018 على وجه الخصوص، وصولاً إلى إعلان أكثر من قياديّ في حماس، هذا الشهر، عن اتّخاذ الحركة قراراً بالإجماع بإعادة العلاقة مع دمشق كما كانت. لكنّ عوامل عديدة ومفصلية جرت على مدى السنوات الأخيرة، هي من رسمت ذاك الطريق الإجباري وأوصلته إلى هذه النقطة، وأهمّ هذه العوامل:

ـ فشل المشروع الأميركي الذي اعتمد بشكل رئيسي على "الإخوان المسلمين" في العديد من الدول العربية, وهذا عائد إلى انكشاف الدور الإخواني المتحالف مع القوى الاستعمارية. وعجز الإخوان عن تقديم أيّ صورة إيجابية بديلة، الأمر الذي مكّن القوى المعادية لهم في تلك الدول، من الانقلاب عليهم وإخراجهم من السلطة، بدعم شعبيّ واسع في بعض الحالات.

ـ صمود الدولة السورية بجيشها وشعبها ومؤسساتها، وثباتها في قتالها المرير على مدى سنوات إلى جانب حلفائها في محور المقاومة، وقدرتها على إفشال المشروع الأميركيّ في الإقليم، وخروج دمشق أقوى ممّا كانت على المستوى العسكريّ، وعلى المستوى السياسيّ لجهة قوة حلفها الناهض في المنطقة والعالم.

ـ انكشاف المشروع الإردوغاني الذي قدّمته واشنطن ليتزعّم قوى "التغيير" في المنطقة، من منطلق قيادته السياسية لتنظيم "الإخوان المسلمين" في المنطقة والعالم. حيث أبدى الرئيس التركي خلال أكثر من منعطف، استعداده للسير فوق جسد الحركة الإخوانية العربية، لبلوغ غاياته التوسعية أو مصالحه السياسية والاقتصادية الخاصة. وقد تجلّى هذا الأمر مؤخّراً على أكثر من صعيد، خصوصاً على مستوى تقاربه مع العدو الإسرائيليّ، ومع الأنظمة العربية التي تناصب حركة "الإخوان" العداء المرير، وتخلّيه السّهل عن الكثير من الشعارات التي كان الإخوان العرب يتغنّون بها، حين يشيرون إليه كقائد إسلاميّ تحرري ونهضوي.

ـ انكفاء واشنطن وتراجعها القسريّ في المنطقة، وذلك في الفترة التي امتدت بين النصف الثاني من إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، ونهاية السنة الأولى من حكم إدارة الرئيس جو بايدن. مع تقدّم قوى أخرى في المنطقة والعالم، وعلى رأسها روسيا والصين وإيران، وازدياد نفوذها وقوتها في منطقتنا العربية على وجه الخصوص.

ـ بروز الدور المؤثر لدمشق وحلفائها في محور المقاومة، خصوصاً إيران وحزب الله وحركات المقاومة الحليفة، خلال معركة "سيف القدس"، وقدرتهم على إرساء معادلات رئيسية في الصراع مع المحتل الإسرائيليّ. وهنا، كان للدور السوري البارز على صعيد إرسال السلاح النوعيّ إلى المقاومة في الداخل الفلسطينيّ، أثراً كبيراً في المعركة، كما في نفوس المقاومين الفلسطينيين.

ـ وجود تيارات في "حماس"، لديها مواقف متباينة من العلاقة مع سوريا، حيث برزت مواقف واضحة لقيادات تاريخية في الحركة، كالسيد محمود الزهار الذي كان قد غرّد مبكراً خارج سرب القيادة السياسية على هذا الصعيد، حين قال في تصريح له العام 2019، إنّ "خروج حماس من دمشق كان خطأ"، وإنّ غدراً قد لحق بسوريا. ثم تقدّم قيادات عسكرية وسياسية جديدة إلى الصفوف الأولى للحركة، ترى في سوريا سنداً وظهيراً استراتيجيّاً للمقاومة الفلسطينية، وعلى رأس هؤلاء القائدين العسكريين يحيى السنوار ومحمد الضيف، وقد علت أصوات تلك القيادات في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد معركة "سيف القدس"، مطالبة بتصحيح الأمور لصالح القضية المركزية فلسطين، وعموم القضايا العربية والإقليمية المتعلقة بالصراع مع المحتل.

ـ قدرة كيان الاحتلال، ومن خلفه أميركا والغرب، على التغلغل السريع في المنطقة العربية على مدى السنوات الأخيرة، وتجاوزه مرحلة التطبيع الرسميّ، وبلوغه نقطة قيادة حلف يضم عدداً من الأنظمة العربية، هدفه الأساسي محاصرة قوى المقاومة في الإقليم والقضاء عليها، خصوصاً أنّ تلك الأنظمة التي فتحت أبوابها على الغارب للإسرائيلي، تعتبر "حماس" عدوّاً صريحاً، كما عموم حركات المقاومة العربية، وداعمها الرئيسي إيران.

ـ تدخّل قيادات بارزة في محور المقاومة، إيرانية ولبنانية على وجه الخصوص، وسعيهم الحثيث للمّ شمل أهل المقاومة، والتوحّد كتفاً بكتف لمواجهة المحتل وأعوانه وأدواته في المنطقة، لما لذلك من أهمية قصوى في المعركة القادمة التي يُعدّ لها الجميع، والتي ينبغي أنْ تقوم على كلّ جهدٍ ممكن لبلوغ الغاية القصوى، وعليه، يجب العمل على سدّ كلّ ثغرات الضعف، وترميم كلّ عطبٍ في جبهة المقاومة. وقد أثمرت هذه الجهود بالفعل في السنوات الأخيرة، وصولاً إلى النقطة التي بلغناها الآن، حيث الاستعداد لإعادة العلاقة بين دمشق وحماس.

على الجانب السوريّ، ترى دمشق أنّ ثوابتها الوطنية تتطلّب، كالمعتاد منها تاريخيّاً، أنْ تتعالى على الجراح، وأنْ تقيس الأمور بحسابات مصلحة الأمة، وهو ما ينتصر لديها في النهاية، وتنتصر به، خصوصاً وهي تدرك أنّ محاولات التقارب العربي الأخيرة، لم تكن أكثر من محاولة أميركية ـ عربية للاستيعاب بهدف الترويض تحت الجوع والحصار، لأخذها إلى مكان آخر كانت قد رفضته حين كانت كل مدافع الغرب والعرب موجّهة إلى رأسها. ودمشق هنا، وهي تستعد لاستقبال مسؤولين من حماس، لم تبعد عن مواقعها ومواقفها شبراً واحداً، فهي ما تزال مع المقاومة، لا مع "الإخوان"، ومن سيأتي إليها، سيأتي باعتباره مقاوماً ورفيقاً للجندي السوريّ في معركته من أجل التحرّر والتحرير من الاحتلال والهيمنة، وهو ما سيكون.

ختاماً، تشهد منطقتنا حراكاً حثيثاً من جميع الأطراف، يصبّ في مصلحة الحرب، فأميركا و"إسرائيل" وحلفائهما الذيليين في المنطقة، يعقدون الورشات ويوزّعون الأوامر وينصبون بطاريات الصواريخ على عموم حدود المنطقة، وأهدافهم واضحة تماماً. أمّا الهدف الواضح والمحدّد والصريح لقوى محور المقاومة في هذه المرحلة المفصلية من التاريخ، والتي ستحدّد شكل المستقبل، فهي رصّ الصفوف والتوحّد والتجهّز بكل جهد ممكن لخوض حرب تحرير لا رجعة عنها، وتلك حرب لا ينوي أحد في محور المقاومة إنهائها دون نصر مبين. وفي سبيل ذلك كلّه، ليست أبواب دمشق وحدها المفتوحة للمقاومين، بل كل قلوب السوريين التي تنبض هناك، عند "بوّابة التاريخ".

 

كاتب وباحث سوري