Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

طبيعياً، لا شك، نحن في أسوأ مرحلة من تاريخنا. جفاف يهدد المشرق العربي. أزمات مائية، مناخية، بيئية، متعددة المظاهر. الثروة الحيوانية مهددة. الثروات الأخرى مبددة. أنظمة عقيمة، وشعوب تائهة، وخطابات ما أنزل الله بها من سلطان. لكن زلزال "قهرمان – مرعش" الأخير، أماط اللثام عن كوارث أخرى نعيشها. إن نقص ثروتنا الحيوانية يعوضها البعض بخطاب "حيواني" قل نظيرة، مرة عن الذات، وأخرى عن الله

إبراهيم مرعي

عن كوارثنا الطبيعية والعقلية

طبيعياً، لا شك، نحن في أسوأ مرحلة من تاريخنا. جفاف يهدد المشرق العربي. أزمات مائية، مناخية، بيئية، متعددة المظاهر. الثروة الحيوانية مهددة. الثروات الأخرى مبددة. أنظمة عقيمة، وشعوب تائهة، وخطابات ما أنزل الله بها من سلطان. لكن زلزال "قهرمان – مرعش" الأخير، أماط اللثام عن كوارث أخرى نعيشها. إن نقص ثروتنا الحيوانية يعوضها البعض بخطاب "حيواني" قل نظيرة، مرة عن الذات، وأخرى عن الله. وكأن ما فينا من بؤس وشقاء لم يعد كافياً ليُصر هذا البعض على ممارسة "فيتيشيّة" عقلية من قِبله ضد الناس.

الناس تحت الردم؛ أطفال، نساء، رجال، يتوسلون الله من تحت الركام. طفل يلفظ روحه ومعها الشهادة معلقاً بطرف مبنى يتداعى من أعلى. في كل هذه المأساة، يخرج من يقول للناس هذا جزاء "غفلتكم" وذنوبكم. هكذا، بكل اسفاف وسخف، يضع هذا "الصنف" من البشر نفسه في موضع الإله الذي يتشفّى من عباده. لن أحارج في "توراتية" هذا المنطق وجذوره. ولن أحارج في اختزاله علل الطبيعة في تعليل وحيد نأى الأصوليون أنفسهم عنه في تعليل الشريعة (لا يوجد أصولي واحد يستطيع حسم علة أمر تشريعي بشكل قاطع) لكن مخاطبة الناس في مثل هذه الظروف بمثل هذا المنطق أمر يستدعي الإنتباه.

هل فقدنا كل ما يمكن أن نقوله للناس حتى استسهلنا تكرار ما حفظناه عن ظهر قلب في غير موضعه؟. وإذا كنا لا نملك ما نقوله، ما الذي يدفعنا إلى كل هذا "اللعي"؟. من طلب منا الكلام؟، من طلب من أيٍ منا الكلام في مثل هذا الظرف؟. أليس من الأجدى السكوت، أقله، حتى تخرج الناس من تحت الردم؟. ثم أليس من الأجدى احترام الحد الأدنى من عقول البشر، فنُرجع كوارث طبيعية (قد تقع في أطهر بلاد الأرض وفي أسوئها) إلى أسبابها الطبيعية التي أمرنا الله بأخذها سبباً وعلة في فهم حياتنا الدنيا؟.

إن التفكر والتدبر، ومحاسبة النفس على نزواتها وأخطائها هو شيء متأصل في الثقافة الإسلامية، وهذا سليم. إذ يستحضر الإنسان في كل خير أو بلاء قصور نفسه وحضور الله فيها، وفي العالم من حوله. هذا شيء، وتعليل أزمات طبيعية بعلل نفسية مُتخيَّلة شيء آخر. أن نستدعي الله لنقرّع الناس، وكأن فيهم ما ليس فينا، في مثل هذه اللحظة هو ما لا ينبغي على عاقل فعله. كان من الأجدى على من يريد "إدغام" المسألة الأخلاقية، بالكارثة الطبيعية، أن يستذكر ما في التراث من خير يدعو المؤمنين للتكافل والتضامن كالجسد الواحد لرفع البلوى، بدلاً من تقريع الناس بنحو فارغ وفاجر.

كما أن تغييب الخطاب السببي وإرجاء الأمور لأسباب محض غيبية منقطعة عن الواقع (في ما يرد اليوم من خطاب في هذه اللحظة/ المأساة) فيه الكثير من "الأشعرية الرثة". و"الأشعرية الرثة" ها هنا، لا علاقة لها بالأشعرية التي عرفها التاريخ من اعتقاد. فتلك كانت وليدة جدل واقعي ونظري، ووليدة جِدّة اجتهادية احترفها أعلام أهل الإسلام. أما "الأشعرية الرثة" هذه، فهي نمط أو ثقافة تحيل الواقع إلى مجهول "نسميه الله". هي ألا نسائل أنفسنا من المسؤول عما نحن فيه؟ وكيف وصلنا إلى ما نحن فيه؟ ولماذا حدث ما حدث؟. و"الأشعرية الرثة" هذه، ثقافة عماء شعبي يكاد يطغى على أدبيات سلوكنا اليومي في بلاد الشام بنحو كبير. فثمة "سني أشعري" و"شيعي أشعري" و"مسيحي أشعري" و"علماني أشعري" و"لا أدري أشعري". والأشعرية هذه انقطاع عن الواقع واغتراب عنه. هي نوع من استلاب القدرة عن الفعل (عندما لا تمتلك شيئاً لتقوله أو تفعله، في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، سترجئ كل شيء إلى متعال عن الأسباب الطبيعية).

ولمثل هذه "الفيتيشية العقلية" تجليات وتمظهرات. منها السياسي على سبيل المثال لا الحصر، كأن يخرج "كائن ما" على شكل "محلل سياسي" فيشمت بالناس لكون الزلزال أصاب مناطق المؤيدين لخصومه السياسيين (ماذا فعلنا يا رب لنُبتلى بمثل هؤلاء المحللين؟). وبغض النظر عن سخف هذا المنطق وتداعيه الأخلاقي. إلا أن زلزال مرعش لا شك كشف عن صدوعات أكثر روعاً في عقولنا نحن. فأن نختزل الإنسان في بعد واحد من أبعاده، لهو الحمق، والجهل، والسخف والخسْف الذي ليس من بعده خسْف.

رحماك يا رب... أكلتنا السياسة. رحماك يا رب.... أكلتنا الجاهلية. رحماك يا رب... أكلتنا قلة أخلاقنا.

 

كاتب لبناني