Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

تصوير همنغواي للمقاومة في "لمن تقرع الأجراس" التي تدور أحداثها خلال الحرب الأهلية الإسبانيّة (1937 – 1939) لا تحمل سوى القليل من التشابه مع المقاومة الفرنسيّة على أرض الواقع. ومع ذلك، يصعب تحديد الأجوبة عن هذه الأسئلة: ما هي المقاومة؟ وماذا أنجزت؟ ومن هم أعضاؤها؟ وهل كانت كبيرة وفعّالة أو صغيرة وغير فعالة؟ فرنسا في الحرب العالميّة الثانيّة نشرت غسيلها الوسخ في مهب الريح: اختارت فرنسا وحدها من بين دول أوروبا التي اجتاحها الجيش الألماني

مازن الغول

المقاومة الفرنسيّة: ما مدى مقاومتها؟

النص الأصلي لستيفان ويلكنسون 

ترجمة: مازن الغول

***

كل اللّوم يُلقى على إرنست همنغواي.[1]

***

منذ أن كتب "لمن تُقرع الأجراس" عام 1940، كانت الصورة الشعبيّة للمقاومة في زمن الحرب هي تلك التي يُدفع بالمقبض للأسفل في صندوق تفجير موصول بشحنة ناسفة، والجسور التي تتفجّر، وخطوط السكك الحديديّة المخرّبة، والقنّاصة الذين يقتلون جنود العدو ما أن يصبحوا في رؤية مناظيرهم. شكّلت هذه الصورة أيضاً انطباعات العصر الحديث عن المقاومة الفرنسيّة، وهي تلك الحركة المتعدّدة الأوجه، التي أُسيء فهمها في الحرب العالمية الثانية، والتي انتشرت في صفوف المدنيين الشجعان بعد أن نجحت ألمانيا في السيطرة على فرنسا في عام 1940.

لكن تصوير همنغواي للمقاومة في "لمن تقرع الأجراس" التي تدور أحداثها خلال الحرب الأهلية الإسبانيّة (1937 – 1939) لا تحمل سوى القليل من التشابه مع المقاومة الفرنسيّة على أرض الواقع. ومع ذلك، يصعب تحديد  الأجوبة عن هذه الأسئلة: ما هي المقاومة؟ وماذا أنجزت؟ ومن هم أعضاؤها؟ وهل كانت كبيرة وفعّالة أو صغيرة وغير فعالة؟ فرنسا في الحرب العالميّة الثانيّة نشرت غسيلها الوسخ في مهب الريح: اختارت فرنسا وحدها من بين دول أوروبا التي اجتاحها الجيش الألماني، التعاون بفاعليّة مع العدو، وشعر الفرنسيون بالخزي العميق نتيجة هذا الخيار مباشرة بعد أن حرّرهم الحلفاء. عوّضت الدولة عن هذا العار بالمبالغة أحياناً في إنجازات هؤلاء المقاومين الذين قاموا بالدعاية والتجسس والتخريب وحتى محاربة الألمان وجهاً لوجه.

كتب إيان أوسبي في كتابه "الاحتلال: محنة فرنسا، 1940 – 1944": من المفهوم أن الفرنسيين تفاعلوا بعد التحرير مع محنتهم من خلال التراجع إلى الأسطورة. أسطورة شعب متّحد في عداء للمحتلين النازيين، وأمّة من المقاومين". في الحقيقة كانت فرنسا بعيدة كل البعد عن أمّة من المقاومين. كان مقاومو النازيّة في يوغوسلافيا وبولندا واليونان أكثر فعاليّة بشكل كبير، وشكّلوا نسبة مئويّة من السكّان أعلى بكثير من تلك في فرنسا.

أيّد 90% بالكامل من سكّان فرنسا نظام فيشي المتعاون أو كانوا خائفين جدّاً من أن تُنسب لهم أي علاقة بالعمل السرّي. كان من الواضح أن معظم المدنيين لم يعودوا يريدون أن يكونوا جزءاً من أي حرب، وافتقر العديد من الجنود الفرنسيين إلى الإرادة لمواصلة القتال. فمثلاً، تفاجأ الجنود الألمان عندما رقص بعض الفرنسيين بعد أسرهم في حزيران من عام 1940، وغنّوا الأغاني الشعبيّة، سعداء بالانتهاء من القتال.

كان عدد كبير من الرجال والنساء الفرنسيين متعاونين بالعلن مع الإحتلال، وأولئك الذين لم يتعاملوا كانوا راضين عن التعايش ببساطة مع غزاتهم. بالنسبة للكثيرين، كان التعاون يعني استفادة قصوى من الوضع المحرج، وتقاسم المساحة (وأحيانا الأسرّة) مع جيرانه الأوروبيين، وإن كانوا يرتدون زي الجيش الألماني الرمادي وزي الأس أس الأسود. ولقد ذهب التفكير أبعد من ذلك، بدت الاشتراكيّة الوطنيّة (النازيّة) على الأقل أفضل من الشيوعيّة التي كانت بالفعل تمثّل قوّة كبيرة بين العمّال الفرنسيين. أبدى الألمان بدورهم التهذيب مع السكان الفرنسيين، كالتخّلي عن مقاعد المترو لكبار السن، وتوزيع الحلوى على الأطفال والإنفاق ببزخ في الملاهي والمطاعم وعلى الأزياء في باريس. وقد شرع بعض الفرنسيين إلى حدّ القتال إلى الجانب الألمان، إذ تطوّع أكثر من 7 آلاف فرنسي في الجيش الألماني وشكّلوا في نهاية المطاف فرقة شارلمان، التي قاتلت على الجبهة الشرقيّة وفي معركة برلين.

نمت المقاومة الفرنسيّة ببطء. رفعت باريس والكثير من بقية أنحاء فرنسا المحتلّة أعلام الصليب المعقوف على كل فندق ومبنى عام حتّى التحرير في آب من عام 1944. على النقيض من ذلك، عندما غزا الألمان اليونان ورفعوا رايتهم المتوهجة من الأكروبوليس، مزّقها المقاومون في غضون أيّام. في البداية، على الأقل، كان الفرنسيّون مهتمين بالتوافق مع الألمان أكثر بكثير من اهتمامهم بتحديهم.

كشفت المقاومة لأوّل مرة عن نفسها عبر توزيع مناشير مناهضة للنازيّة بشكل سرّي تحت طائلة  الاعتقال أو السجن أو التعذيب أو حتّى الإعدام. وقد استفادت النشرات السريّة بشكل جيّد من مواهب الثوّار الفرنسيين الأوائل، لأن الكثيرين منهم كانوا من المثقفين ولم يكن لديهم أي فكرة عن كيفيّة إطلاق النار. ظلّت هذه الناحيّة مشكلة للمقاومة. مع الوقت، ضمّت الحركة نشطاء مناهضين للفاشيّة، وخاصةً من الشيوعيين، وعدد صغير نسبياً من البرجوازيين والمثقّفين؛ وشباب من بلطجيين ومتذمّرين ومنبوذين أرادوا الفعل؛ ونواة من الرجال والنساء الذين احتقروا ما اقترفه الألمان بفرنسا.

ما لم يكن لدى المقاومة هو العسكريون المحترفون. فقد تمّ القبض على معظم أفراد الجيش الفرنسي وسجنه، إذ كان هنالك مليون و450 ألف جندي فرنسي في الأسر الألماني. فرّ عدد قليل منهم إلى إنكلترا للانضمام إلى قوّات فرنسا الحرّة الوليدة بقيادة شارل ديغول، ولكن من بين هؤلاء القلائل المتبقين في فرنسا، كانت حرب العصابات شيئاً لم يفهموه أو يريدوه. لذلك كانت المقاومة جيشاً من الهواة، مستعداً وقادراً ليس على خوض المعارك العسكريّة إنّما فقط على إنتاج دعاية معادية للنازيّة وجمع المعلومات الاستخباريّة.

لقد قامت مجموعات صغيرة من مقاتلي المقاومة بمضايقة وإزعاج المحتلين الألمان، ولكن كلّما تجمّعت زُمر أكبر للمشاركة في المناوشات العرَضية، سرعان ما دمّرتهم قوة نيران الجيش الألماني والمدرّعات والدعم الجوّي. كان لدى المقاومة في البداية عدد قليل من الأسلحة - مسدسات من الحرب العالميّة الأولى التي عفا عليها الزمن، وعدد قليل من بنادق الصيد والرشّاشات - و عدد أقل من الأشخاص الذين عرفوا كيفيّة استخدامها. كما لم تكن هناك أي طريقة للحصول على المزيد من الأسلحة حتى بدأ البريطانيون جوّاً في عام 1943 في إسقاط الأسلحة والذخيرة والمتفجرات وغيرها من الإمدادات.

قد يكون أوّل عمل عنيف للمقاومة المسلّحة هو اغتيال ألفونس موزر، وهو ضابط بحري ألماني ذو رتبة ليست عالية، في مترو باريس في 21 آب/ أغسطس من عام 1941. كان مطلق النار شيوعيّاً يُدعى بيير جورج. كان الحزب الشيوعي الفرنسي في صميم حركة المقاومة المبكرة. انجذب الشيوعيون ذوو الخبرة والمهارة في تنظيم الإضرابات وإثارة الجماهير نحو المقاومة، خاصةً بعدما أن خرق أدولف هتلر ميثاق عدم الاعتداء مع الاتحاد السوفيتي وهاجمه عبر فتح الجبهة الشرقية في 22 حزيران/ يونيو من عام 1941. عندها، أخذ المقاومون الشيوعيون على عاتقهم ارتكاب أكبر قدر ممكن من الفوضى، لا سيما في المدن الكبيرة، وإجبار الألمان على نشر قوات إضافيّة فيها، وبالتالي تحويل الجنود عن الخدمة في مناطق الحرب.

شكّل اليهود مجموعة رئيسيّة أخرى من المقاومين لأسباب واضحة. وبالرغم من كونهم 1% فقط من سكان فرنسا المعاديّة للساميّة، قيل أنّهم شكّلوا من 15 إلى 20 في المائة من مقاومته. سلّمت حكومة فيشي إلى الألمان جميع اليهود الأجانب الذين فروا إلى فرنسا كلاجئين، مات معظمهم في معسكرات الاعتقال والعمل القسري. وذهب الأمر إلى أبعد من ذلك في قانون عام 1940 الخاص باليهود، إذ تمّ نزع الجنسيّة عن عدة آلاف من اليهود المولودين في فرنسا ثم رُحّلوا إلى معسكرات الاعتقال.

استرعى القتل في مترو الأنفاق ردّاً قاسياً ولكن فعّالاً من الألمان عبر عمليات الإعدام الانتقاميّة. فمقابل كل ألماني قتلته المقاومة، كان النازيّون يقتلون العشرات، بل المئات، من المدنيين. في البداية اختار الألمان الضحايا من بين السجناء الموجودين لديهم من شيوعيين وفوضويين وديغوليين وفئات أخرى من المجرمين. لكن بعد ذلك، أصبحوا أقل تمييزًا، إذ قتل الألمان ما يقدّر بنحو 30 ألفاً من الرجال والنساء الفرنسيين الأبرياء بحلول وقت التحرير. في نهاية المطاف، كان لدى المقاومين الكثير ليخافوه سواء من المواطنين الذين تحولوا إلى مخبرين أو من النازيين أنفسهم.

كان العمل الأكثر قيمة الذي قامت به المقاومة الفرنسيّة هو توفير معلومات استخباراتيّة، قبل الغزو، للبريطانيين ولاحقًا للأمريكيين حول تحرّكات القوات الألمانيّة والدفاعات الساحلية، بالإضافة إلى خرائط وصور دقيقة لاستخدامها من قبل مخطّطي إنزال النورماندي. بعد الحرب، قدّر القائد الأعلى للحلفاء في أوروبا الجنرال دوايت أيزنهاور عاليّاً مجهود المقاومة الفرنسيّة لناحيّة جمع المعلومات الاستخباراتية الثمينة جداً.

وصلت بعض المعلومات الإستخباريّة إلى إنكلترا بواسطة عملاء بريطانيين تمّت ملاقاتهم ليلاً في المراعي والحقول ونقلهم  بواسطة طائرات خاصّة من سلاح الجو الملكي مطليّة باللون الأسود. لكن الكثير من المعلومات أُرسلت من خلال الراديو. وبالنظر إلى الاجتهاد الذي سعى به الجيستابو إلى اكتشافهم، اشتهر مشغلو راديو المقاومة بمتوسط ​​عمر يبلغ ستة أشهر فقط. لم يكونوا هواةً ماهرين، وكانت أجهزة الراديو الخاصة بهم عبارة عن وحدات ضخمة يصعب إخفاؤها، وبسبب البث البطيء للرسائل لم يصعب كثيراً على الألمان رصدها وتحديد موقعها والقبض على مشغّليها في معظم الأحيان.

في الحقيقة، استبعد البريطانيون والأمريكيون الكثير من المعلومات الإستخباريّة المبعوثة من قبل المقاومة على أنها عمل هواة أو غير صحيحة. وقد كتب المؤرخ دوجلاس بورش في كتابه الشامل "الأجهزة السريّة الفرنسيّة" أن "في أواخر الأشهر الأولى من عام 1943، كانت ما نسبته 40% من بث المقاومة جرى على تردّدات كان الألمان وحدهم قادرين على الاستماع إليها".

في إنكلترا، ادّعى ديغول، الذي أسّس بمفرده وبشكل مثير للجدل حكومة فرنسا الحرّة في المنفى، الفضل في تأسيس المقاومة، ولكن كان في ذلك مبالغة كبيرة. وفي خطاب عبر هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في حزيران 1940، بُثّ إلى فرنسا، حثّ ديغول على "المقاومة"، ولكن ما كان قصده بوضوح هو أن يجد الفرنسيون القادرون طريقهم إلى إنكلترا للانضمام إلى جيش فرنسا الحرّة لمقاومة الألمان من خلاله. لم تكن تعنيه المقاومة المحليّة، خاصةً التي لم تكن تحت إمرته.

كان هناك أيضاً قدر من العداء بين الفرنسيين الأحرار والمقاومة. غالباً ما كان الفرنسيون الذين شقوا طريقهم إلى إنكلترا يقلّلون من قيمة المقاومين المحليين على أنهم أولئك الجبناء الذين "ما برحوا خلفهم"، في حين اعتبر المقاومون المحليّون المغتربين الفرنسيين أنّهم "فروا إلى برّ الأمان". قلة هم الذين فهموا أو احترموا دافع الآخر.

بغض النظر، لم يسمع سوى عدد قليل من المقاومين الأوائل خطاب ديغول. تشكّلت خلايا وكوادر منفصلة تماماً بشكل تلقائي بين مجموعات متباينة مثل أمناء متحف باريس ورواد المقاهي الغاضبين. خدموا في البداية كأبواق دعائيّة، وجامعي معلومات، وسعاة لإعادة طياري الحلفاء الذين أُسقطوا إلى إنكلترا. وتألفّت شبكة هؤلاء السعاة من منازل آمنة ومرشدين للرحلات يقومون بتسليم الطيارين الذين تم إسقاطهم إلى غواصات الحلفاء قبالة الشواطئ الفرنسيّة أو إلى الأمان في إسبانيا والبرتغال المحايدتين. العديد من الذين أرشدوا الهاربين عبر جبال البيرينيه حصلوا على أجر جيد مقابل عملهم. بعضهم حصّل الرسوم مرتين - مرة من عملائهم ومرّة ​​أخرى من الألمان الذين سلّموا الطيارين إليهم. كما فرضت المقاومة أحيانًا رسومًا على استخباراتها، متذرّعة بأنّ "القضيّة" بحاجة إلى المال.

مهما كانت عيوبها الأوليّة، فقد تعززت المقاومة بشكل كبير عندما قدّمت حكومة فيشي المتعاونة للألمان تنازلاً مصيريّاً في أوائل عام 1943 وهو الموافقة على خدمة العمل الإلزامي، وهي قواعد عمل جديدة تتطلب من جميع الفرنسيين القادرين العمل الجبري في ألمانيا. على الفور، فرّ آلاف الشباب، خاصة في الجنوب، إلى الريف، حيث عاشوا في الغابات التي تغطي معظم الجنوب. أطلقوا على أنفسهم اسم "ماكي"، وهي كلمة تُترجم بشكل فضفاض إلى "الغابة".

سرعان ما أدرك قادة المقاومة أن هؤلاء الماكيون لم يكونوا عديدين فحسب، بل كانوا يائسين وشجعان وقابلين للتدريب ومفيدين. لم يكن هؤلاء من رواد المقاهي الباريسيّة أو محرري الصحف السريّة، بل كانوا شديدي البأس ومقاتلين محتملين، وباتوا يمثّلون صورة المقاومة على طريقة هيمنغواي السينمائيّة، أي الرجال الذين يرتدون البيريهات مع رشاشات "ستين" على أكتافهم وسجائر غولواز بين شفاههم.

نضجت المقاومة في الأشهر التي سبقت والتي تلت غزو الحلفاء للنورماندي في حزيران/ يونيو من عام 1944. كانت المعلومات الاستخباراتيّة والخرائط والصور والتقارير التي أرسلوها إلى إنكلترا مفيدة لمخططي الغزو وكان من الممكن أن تكون أكثر فائدة لو وثق الحلفاء تماماً بالمقاومين. لطالما كان هناك شك قوي، خاصة بين الأمريكيين، فيما يتعلق بصحّة المعلومات الاستخباراتية التي قدمها الفرنسيون. وعلى الرغم من تقييم آيزنهاور الإيجابي الكبير للمقاومة، فإن قيادة قوات الحلفاء العليا لم تزوّد ديغول حتّى بتاريخ إنزال النورماندي، وهو ازدراء لم يغفره القائد الفرنسي أبداً.

لكن للمرة الأولى، خطّطت المقاومة لحملات تخريب محدّدة ومنسّقة جيّداً ضد السكك الحديديّة وشبكات الطاقّة والطرق السريعة ومستودعات الوقود والذخيرة ومراكز القيادة وخطوط الاتّصالات للمساعدة في الغزو الذي كانوا يعرفون أنه أمر لا مفر منه. وبحسب ما ورد دمّرت المقاومة 1800 هدف للسكك الحديديّة في الأشهر التي سبقت الغزو وبعده، مقابل تدمير 2400 هدف من قاذفات الحلفاء. كما علم المقاومون أنهم لا يحتاجون حتّى للمتفجرات وخطرها المصاحب لضرب سكك الحديد، إذ قاموا ببساطة بإزالة البراغي التي تربط هذه السكك ببعضها. على الرغم من أن التصوير الهوليوودي المحرّف للواقع لهذه العمليّات حيث تتساقط قطارات كاملة وحمولاتها على سفوح الجبال، إلا أن هذا التخريب كان مزعجاً أكثر منه معرقلاً للألمان، الذين ما يلبثوا أن يقوموا بالإصلاحات متُستأنف الخدمة في غضون ساعات.

مع تحرير باريس في آب/ أغسطس من عام 1944، بقيادة الجنرال فيليب لوكلير وفرقته المدرعة الثانية لفرنسا الحرّة، انتهى عمل المقاومة بشكل أساسي، ومع ذلك فقد انطبعت أيضاً بأحلك أوقاتها. لم يكن المقاومون المواطنين الوحيدين الذين انغمسوا في عمليات الإعدام خارج نطاق القانون والإعدامات الميدانيّة التي أعقبت التحرير، ولكن العديد منهم شاركوا في هذه الأعمال بحماسة. اعتاد المقاومون وغيرهم على أن ينفّذوا القانون على طريقتهم، فقد أطلقوا غضبهم على الجميع من المتعاونين المعروفين، وخاصةً النساء اللواتي شاركن أسرّتهن مع الألمان، إلى الأبرياء نتيجة إخبار كاذب من جار مخبر لضغينة ما. سمّي هذا التطهير الخارج عن القانون بعد التحرير "التطهير القانوني". وحُكم على نحو 10 آلاف متعاون بالإعدام، رغم أن المسؤولين فعليّاً نفّذوا أقل من 800 عمليّة إعدام.

كتب بورش في"الأجهزة السريّة الفرنسيّة": "في عدد لا يُحصى من الأفلام والروايات التي أعقبت الحرب، همس عملاء غامضون بالمعلومات الحيويّة للمجهود الحربي، بينما قام المقاومون بإخراج القطارات عن مسارها بجرأة، وقذف قوافل من سيارات  الجيستابو ودرّاجاتهم الناريّة وركّابها الجانبيين نحو الوديان على جوانب الطرق الفرنسية". وأضاف، "كانت أسطورة المقاومة قويّة جدًا، وأصبحت مهمّة جدًا لتقدير الذات لدى الفرنسيين، لدرجة أن المؤرخين وفقط بشكل تدريجي، وليس بدون جدل، تمكنوا من تقييم حجمها الحقيقي وأهميتها". إن مقاومة المواطنين تعمل بشكل جيد، كما يشير بورش، عندما يكون الجمهور ملتزمًا بشدّة بالقضيّة. لكن في فرنسا، "كانت حفنة من الشرطة الألمانية مدعومة من قبل سلطات فيشي، مصاحبة بعمليات انتقام قاسيّة من قبل الجيش الألماني وقوات الـ"أس أس"، كافيّة لقمع السكان وإذعانهم بشكلٍ مرضٍ للإحتلال حتى عشيّة إنزال النورماندي وما بعده".

فهل كانت المقاومة الفرنسية فاعلة؟ ربما، في بعض الأماكن في بعض الأحيان، ولكن في كثير من المواقف كانت قيمتها مبالغاً فيها بشكل صارخ. زعمت المقاومة، على سبيل المثال، أنها قتلت 6 آلاف عضو من وحدة "داس رايش" المدرّعة الشريرة. ومع ذلك، قام المؤرخ البريطاني ماكس هاستينغز بفحص سجلات الوحدة من أجل كتابه "داس رايش" وخلُص إلى أن الفرنسيين كانوا مسؤولين عن مقتل ما يقرب من 35 جندياً من أصل 15 ألف من هذه الوحدة. ولطالما تباهى الفرنسيون بالمقاومة لدرجة أنهم زعموا أنّه، نتيجة للعمل المقاوم، استغرق فرقة "داس رايش" المدرّعة أكثر من ثلاثة أسابيع للانتقال من ستراسبورغ إلى كان بعد غزو النورماندي، وهو عادة ما يستغرق ثلاثة أيام لفرقة مدرعة. لكن الحقيقة أن أوامر ألمانيّة قد صدرت لكي تقوم هذه الفرقة بالتحرك وأخذ الوقت الكافي عمداً لسحق المقاومين في المنطقة التي تمر من خلالها، وهو ما نجحت فيه.

تكثر صناعة الأساطير في روايات ما بعد الحرب الفرنسيّة والبريطانيّة والأمريكيّة. تدّعي سجلات المقاومة أنه كان هناك في النهاية 400 ألف منتسب إلى المقاومة الفرنسيّة. لكن الأرقام الرسميّة للحكومة الفرنسيّة تقول 220 ألفاً، بينما تظهر أبحاث بورش 75 ألفاً. الحقيقة قد لا تُعرف ابداً.

من بين أكثر التعليقات اللاذعة على المقاومة كانت تلك التي أدلى بها وزير التسليح والإنتاج الحربي الألماني ألبرت سبير. عندما طلب المؤرخ الاقتصادي البريطاني آلان ميلوارد منه التعليق على فعاليّة المقاومة في عرقلة جهود ألمانيا في زمن الحرب، أجاب سبير باستهزاء: "أي مقاومة فرنسيّة؟" وعندما قيّم الجنرال ألفريد يودل، قائد العمليات في القيادة العليا للقوات المسلحة الألمانية، في تشرين الثاني من عام 1943، لهينريش هيملر الوضع العسكري على الجبهة الغربية، كانت جماعة حرب العصابات الوحيدة التي ذكرها يودل هي الميليشيات اليوغوسلافيّة. بالنسبة إلى يودل، كانت المقاومة الفرنسيّة غير واردة.

ومع ذلك، بالنسبة لنا ولأولئك الذين لم يسبق لهم أن عانوا من احتلال العدو أو حرب عصابات هامشية سيئة التجهيز، فإن الإنتقاد يكون سهلاً. لكن في النهاية، إن الأساطير المُضخّمة التي تحيط بالمقاومة الفرنسيّة اليوم تدنس فقط ذكرى أولئك الذين خدموا حقاً.


[1]كاتب وصحفي أميركي، يصنف من أهم الشخصيات الأدبية في أميركا، أصدر العديد من الروايات والقصص الشهيرة، وكتبت حوله العديد من الكتب.ولد أرنست همنغواي في 21 تموز/ يوليو من العام 1899 لعائلة برجوازية بروتستانتية، ونتيجة لطفولة صعبة صحياً، ولمشاهداته خلال مشاركته في الحربين العالمتين الأولى والثانية، اتسمت أعماله الأولى بالسوداوية والكآبة. عام 1922، هاجر همنغواي إلى فرنسا، وهناك تعرف على الحركة الثقافية الفرنسية. شكلت روايته "لمن تقرع الأجراس" منعطفاً في نجاحه الأدبي، حيث تجاوزت مبيعاتها مليون نسخة في السنة الأولى لإصدارها سنة 1940. من أشهر رواياته: "وداعا للسلاح" - 1929، "الموت بعد الظهر" - 1932، "تلال أفريقيا الخضراء" - 1935، "لمن تقرع الأجراس" - 1940، "رجال عند الحرب" - 1942 ، "عبر النهر نحو الأشجار" - 1950، "الشيخ والبحر" - 1952، و"وليمة متنقلة"، نُشرت بعد موته، عام 1964.

 

أستاذ الكيمياء الفيزيائية في الجامعة الأميركية في بيروت.