يحتوي كل لواء روسي على كتيبتين مدفعيتين وكتيبة صواريخ وكتيبتين للدفاع الجوي، مقابل كتيبة مدفعية واحدة وسرية دفاع جوي ملحقة بكل لواء أميركي. هذا يفضي لمزيد من المتطلبات اللوجستية الروسية مقارنة بالأميركيين
العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا - تقدير موقف
يكمن الفارق الرئيس بين الجيوش المحترفة والميليشيات جيدة التنظيم في القدرة على إمداد القوات والحفاظ على خطوط الإمداد آمنة. كمثال، يدير الجيش الأمريكي أحد أكثر أنظمة الإمداد والتوزيع العسكري تطوراً في العالم. يمكن للجنود مغادرة قواعدهم في الولايات المتحدة والوصول إلى أي بلد أجنبي والبدء في تنفيذ العمليات في أقل من 48 ساعة. يعود الفضل في هذه القدرة العالية لخطوط الإمداد العسكرية الأميركية المنتشرة في أصقاع الأرض، والتي يتمكن من خلالها الجيش من المحافظة على زخم مواصلة الدفع إلى الأمام. يختبر التدريب الصارم في كلية اللوجستيات العسكرية التابعة لقيادة الأركان الأميركية قدرة ضباط البحرية على تلبية متطلبات الحرب لبعض أكثر الظروف تقشفاً في العالم. يضمن التدريب المعقد ودراسة الأنظمة اللوجستية جهوزية الضباط والجنود للاستجابة لأي موقف. لفهم الشبكة المعقدة من لوجستيات عمل الجيوش الغربية ينبغي على القارئ الاطلاع على استراتيجية "لوجستيات الدفع والسحب" في الجيوش الكبرى. تعمل استراتيجية الإمداد من خلال الدفع إلى الأمام، مثلاً، وفق البيانات التي تقدمها قيادة الأركان بناءً على المتطلبات المقدَّرة والتاريخية. في ظل هذا النظام اللوجستي، لا يُحدد حجم الطلب بناءً على حاجيات العناصر المقاتلة في الخطوط الأمامية بدقة، بل يتم توقعه من قَبل. تحاول الجيوش من خلال هذه الاستراتيجية الأخذ بعين الاعتبار أكبر قدر من اللوجستيات لتعويض أي نقص محتمل. وقد يكون من الصعب التنبؤ بحجم الإمدادات المطلوبة للقتال (كالمواد الغذائية، الوقود، الذخيرة، وقطع التبديل) بسبب طبيعة المعارك وعدم القدرة على التنبؤ بمساراتها. بينما تعتمد استراتيجية "لوجستيات السحب" على بيانات حاجات العناصر المقاتلة في الصفوف المتقدمة. فور وصول البيانات للقيادة الأركانية يتم أخذ الإجراءات وتسليم الكميات اللوجستية المطلوبة بدقة.
نتيجة لذلك، يمكن اعتبار أنظمة "شبكات السحب" أكثر موثوقية ودقة. هذا لا يعني أن مثل هذه الاستراتيجية لا تعاني من مكامن خلل رئيسة. فوفق هذه الاستراتيجية، يتم الاحتفاظ بعدد قليل من المواد المخزنة في المواقع الأمامية في الحرب، ما يجعل أنظمة "شبكات السحب" أكثر بطئاً بسبب الوقت اللازم لتسليم الإمدادات إلى العناصر المقاتلة في الخطوط المتقدمة. هذه الإشكالية يمكن حلها فقط في حال إحكام السيطرة الجوية ومع تضائل كِلف النقل الجوي للدولة المبادرة في الحرب. وهذا سبب رئيسي في مَيل الخدمات اللوجستية الأميركية لاعتماد استراتيجية "شبكات السحب". لا تمتلك الوحدات الأميركية الموجودة في الخطوط الأمامية مخزوناً ضخماً من الإمدادات. هذا يسهّل قدرتها على التحرك السريع، والاستفادة من الفرص في مناطق عملياتها[1]. وهو ما لا تمتاز به قوات الدول الأخرى.
استراتيجيات الإمداد الروسية:
شغلت التعزيزات العسكرية الروسية على طول الحدود مع أوكرانيا منذ أواخر تشرين الأول/ أوكتوبر 2021، بال صانعي السياسة ومديري الاستخبارات من كييف إلى واشنطن. بيل بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، كان قد حط في موسكو أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 لمناقشة طبيعة الحشود على الحدود الأوكرانية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. الخوف الغربي يتفاقم من إمكانية تنفيذ الروس هجوماً مباغتاً في أي لحظة ضد دولة من دول الناتو. لم يسمع بيرنز في موسكو أي تطمينات، وعاد إلى واشنطن خالي الوفاض.
قيام موسكو بغزو دولة من دول من دول البلطيق، أو بولندا على سبيل المثال، احتمال ما زال قائماً. ولكن السؤال في دوائر القرار الغربي اليوم هو التالي: هل تستطيع روسيا تنفيذ غزو واسع النطاق لهذه الدول بنجاح؟. المناورات الأخيرة للجيش الروسي في بيلا روسيا تفيد بالإيجاب. نعم روسيا قادرة على اجتياح دول البلطيق (أستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) ويمكن أن تفعل ذلك بسهولة تامة. في مقال بعنوان War on the Rocks عام 2016، قدّر كل من ديفيد شلاباك ومايكل دبليو جونسون، قدرة روسيا على اجتياح دول البلطيق في غضون ثلاثة أيام. وهذا يخلق معضلة لحلف الناتو. فشن هجوم مضاد من قبل دول الناتو مكلف بطبيعة الحال، كما أن المخاطرة بخسائر فادحة - وربما أزمة نووية - أو قبول الأمر الواقع الروسي سيفضي إلى تقويض الثقة في مصداقية الناتو وقدراته بشكل كبير.
يمتلك الجيش الروسي القدرة القتالية لتحقيق هذه السيناريوهات، لكن السؤال يعود مجدداً: هل تمتلك روسيا القدرة اللوجستية على دعم هذه العمليات؟. لن نجد إجابة مختصرة في الجداول الزمنية التي تتصورها دوائر القرار الغربية يقول جونسون. في هجوم أولي قد تصل القوات الروسية إلى أهداف مبكرة، لكن اللوجيستيات ستفرض متطلبات توقف العمليات سريعاً. ونتيجة لذلك، فإن استيلاء الروس على مساحات واسعة يبدو أمراً غير واقعي.
يمتلك الجيش الروسي القدرة على تحقيق الأهداف المتصورة، لكنه لا يمتلك القوات اللوجستية للقيام بذلك دفعة واحدة دون توقف لوجستي لإعادة تزخيم البنية التحتية لقوات الدعم. يمكن للقاذفات الروسية التكتيكية كبيرة، والطائرات الهجومية، تقديم الدعم الناري للتخفيف من استهلاك ذخيرة المدفعية، لكن ذلك يستنزف القدرة الروسية في المساحات المفتوحة يقول ديفيد شلاباك. "يجب على قيادات أركان الناتو تطوير خطط تركز على استغلال التحديات اللوجستية الروسية بدلاً من محاولة ردم هوة التفاوت في القوة القتالية مع الروس". سيتضمن هذا السيناريو سحب الجيش الروسي إلى عمق أراضي الناتو ثم استهداف البنية التحتية للنقل والإمداد (الشاحنات، الجسور الحديدية، أنابيب الطاقة) بعد وصول خطوط الإمداد الروسية إلى حدها الأقصى. في المقابل، سيعمد الروس للالتزام بمساحة معركة حاسمة على حدود روسيا الطبيعية مما يسمح لهم بتقليل حجم الإمدادات وتعويض نقصهم اللوجيستي.
للبنية اللوجستية الروسية ميزات ومعوقات في آن. لقد ورث الجيش الروسي عن السوفيات منظومة إمداد وسيطرة هندست كل بنى الإمداد التحتية للجيش الروسي "منعاً لغزو محتمل". هذا ما يفاقم من سلبيات الاستراتيجية الروسية في حالة الهجوم. لم يبنِ الروس سكك الحديد اللوجستية من أجل القيام بعمليات هجومية في عمق أراضي العدو، بقدر ما بنوا قواتهم اللوجستية من أجل الدفاع. يمتلك الروس سككاً حديدية عملاقة عشرة تربط مقر القوات الروسية بمستودعات الفرق والألوية. سكك نقل الإمداد اللوجستي تتفرع في روسيا من المركز نحو نقاط طرفانية حدودية (من موسكو إلى ييلنيا، ومن ييلنيا إلى مينسك في بيلا روسيا. ثم من موسكو إلى كورسك إلى بيلغورود على الحدود مع خاركيف الأوكرانية). خط الإمداد العسكري الروسي فريد من نوعه على مستوى العالم ولا يمكن لدول الناتو مجاراة روسيا في هذا الأمر. المسألة تتجاوز مجرد تحميل البضائع من القطارات إلى الشاحنات. أساليب النقل، تأمين حماية خطوط السكك، تهيئة الأرض لتخزين البضائع العسكرية في بيئات آمنة خارج نطاق مدفعية العدو، كلها أمور أخذها السوفيات في الحسبان. ومع ذلك للاستراتيجية الروسية عثراتها في مثل حالة الحرب الروسية - الأوكرانية اليوم.
الهجوم البري الروسي واسع النطاق بعيداً عن خطوط السكك الحديدية الخاصة بهم سيعرّض القوات لمخاطر ليست في الحسبان. يتميز ويعاني الجيش الروسي من صلابة بنيته التحتية اللوجستية؛ وحدات الدعم في الجيش الروسي هي أصغر حجماً من نظيراتها الغربية. بالإضافة إلى أن الجيش الروسي لا يمتلك ألوية دعم كافية لكل من جيوش الأذرعة المشتركة. بحسب دراسة أعدها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية -International Institute for Strategic Studies، يظهر أن روسيا خصصت لكل أحد عشر جيش متعدد الأذرع وأربعة فيالق عسكرية، 10 ألوية دعم.
قبيل الحرب استحدث الروس نقاطاً متقدمة في كل من نوفوسيبيرسك بالقرب من روستوف على حدود إقليم دونتيسك. وفي مدينة سولوتي بالقرب من خاركيف أيضاً. ستقلص مثل هذه النقاط من مدى ضعف إمداد الجيش الروسي خلال العمليات المتقدمة. كما ستوفر إمكانية أعلى لتكثيف آليات عمل وحدات النقل على مدى 60 كيلومتر.
لناحية الأرقام، تمتلك التشكيلات الروسية ثلاثة أرباع عدد المركبات القتالية التي تمتلكها نظيراتها الأميركية. لكن الألوية الروسية تختلف عن نظيرتها الأميركية لناحية البنية القتالية وطبيعة التشكيل العسكري. يحتوي كل لواء روسي على كتيبتين مدفعيتين وكتيبة صواريخ وكتيبتين للدفاع الجوي، مقابل كتيبة مدفعية واحدة وسرية دفاع جوي ملحقة بكل لواء أميركي. هذا يفضي لمزيد من المتطلبات اللوجستية الروسية مقارنة بالأميركيين (نتيجة لوجود كتائب مدفعية ودفاع جوي إضافية).
يتطلب تحول الجيش الروسي من الدفاع إلى الهجوم مزيداً من تطوير منظومات السيطرة والتحكم بين مختلف الوحدات. قبيل بدء الحرب أعاد مقر قيادة السيطرة والتحكم في الأركان الروسية NDMC، تقسيم الجغرافيا الروسية وفق أربعة مقرات لامركزية لإدارة عمليات الجيش. قُسمت روسيا عسكرياً بموجب هذه المقرات إلى أربع مناطق: المنطقة الشرقية، الوسطى، الغربية، والجنوبية. أوكل لهذه المقرات الأربعة قيادة الوحدات الأرضية، الدعم الجوي، الوحدات الصاروخية، القوات الخاصة والمظلية. (فيما أوكل بالمقر الغربي كامل مسرح عمليات بيلاروسيا، وبالمقر الجنوبي قيادة قوتين إضافيتين؛ البحرية والبرمائية). بحسب خبراء غربيين، كان أول ظهور لهذا التغيير البنيوي في المناورات الروسية في كانون الثاني/ يناير 2022 في بيلاروسيا. ومع ذلك، أثر سعي الأركان الروسية هذا - وبحسب خبراء غربيين أيضاً - في كفاءة الوحدات المقاتلة في العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا التي تطلبت تدخلاً من غير مقر (كمثال، أثّر بطء تجهيز قافلة المدرعات عند الجهة الشمالية الغربية من كييف في عنصر المباغتة في العملية ما أحدث إرباكاً في مجمل سير العملية الروسية في كييف لناحية غرب المدينة. كما أثر إبعاد طائرتي إليوشن إل22 أم - LLUYSHYN LL-22M، وبيرييف آي 50 - BERIEV A-50 (المناط بهما القيادة الجوية، وقيادة الحرب إلكترونية، وإدارة نظام الإنذار المبكر والتحكم) عن الدفاعات الجوية الأوكرانية في بطء حركة القوافل الروسية المتقدمة في العمق الأوكراني.
خاركييف أولاً:
شكلت المعارك القاسية في خاركيف مفتاح حل معضلة الإمداد بالنسبة للجيش الروسي. بالنسبة لروجر ماكديرموت - Roger McDermott، المتخصص في دراسات الجيش الروسي في مؤسسة جيمس تاون الأميركية، تعيننا الخرائط السوفيتية القديمة لهياكل خطوط السكك الحديدية في فهم سبب إعطاء الروس والأوكران أهمية كبيرة لخاركيف. فمجرد دخول الروس إلى المدينة سيتمكنون من السيطرة على محاور السكك الحديدية في أوكرانيا والبدء بالتحكم في طرق السكك الحديدية وإصلاح الكثير من المشاكل التي واجهها الجيش الروسي. سيعتمد الأوكران إذاً على تفجير السكك وتقطيع أوصال الشبكة الحديدية قدر المستطاع لإعاقة تقدم الجيش الروسي. في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، قامت خلايا إلكترونية على اختراق شبكة سكك القطار في بيلاروسيا لإرباك القوات الروسية المحتشدة على الحدود مع أوكرانيا. فجر الثالث عشر من آذار أقدم الجيش الأوكراني على تفجير سكة قطار فوزنيزينسك في ميكولاييف للحيلولة دون تقدم الجيش الروسي من القرم أو أوديسا (في الجنوب) على طول الضفة الغربية لنهر الدينيبر.
يعي الروس هذا الأمر جيداً. في السنوات الأخيرة ، شاركت قوات السكة الحديد في جميع التدريبات واسعة النطاق دون استثناء. خلال هذه المناورات، كانت قضايا بناء جسور السكك الحديدية العائمة، وإقامة ممرات عسكرية من خلال مجاري مائية صغيرة وتوجيه جسور السكك الحديدية العائمة على رأس أولويات قيادة الأركان. عام 2017، خلال التمرين الاستراتيجي "West-2017" ، ظهر الإهتمام الروسي بحل هذه المعضلة بشكل كبير. يراهن الناتو على إحداث إرباك استراتيجي للجيش الروسي على مستوى الإمداد. يراهن الروس على محاولة التغلب على هذه المعوقات. الانتقال نحو المرحلة الثانية من العملية العسكرية في الأسبوعين القادمين ستؤكد تعامل كل من الطرفين مع التحدي/ المعضلة. قد تطول العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لكن الروس يتعلمون من الحرب أكثر مما يعلمهم التاريخ.
[1] للأمر صلة بمقدرات الدولة وثقافة المقاتلين أنفسهم. فبالرغم من استثمار الولايات المتحدة مليارات الدولارات في الجيش الأفغاني، ومع إهدارها لسنوات طوال في تطوير نظام الجيش الأفغاني لوجستياً. إلا أن استراتيجية "نظام السحب" لم تحظَ بقبول من قبل القادة العسكريين الأفغان. فاستلام الإمدادات عند الحاجة فقط يتعارض مع الثقافة الأفغانية. في مقاله حول القدرات التسليحية للجيش الأفغاني، يعرض الكابتن روس إيه باورز (قائد سرية دعم الكتيبة الثانية الأميركية – القوات الخاصة السابعة المحمولة جواً) لنمط معيشة الأفغان التي يصعب عليها تقبل مثل هذا الأمر. تؤثر التضاريس في أفغانستان بشكل كبير في الحاجة إلى تخزين الإمدادات. إذ غالباً ما تكون الوديان المحاصرة بالجبال في وسط البلاد وعلى الحدود الشرقية مع باكستان معزولة في أشهر الشتاء بسبب تراكم الثلوج في الممرات الجبلية. علاوة على ذلك، على مدار الثلاثين عاماً مضت، كانت البلاد في حالة صراع شبه دائمة. لذا، تكون عمليات إعادة الإمداد محدودة في الغالب، مما يعزز عقلية المخزن الاحتياطي في المنزل. المنزل الريفي النموذجي في أفغانستان عبارة عن مبنى وفناء محاط بجدران عالية من الطوب. يبني الأفغاني منزله كقلعة مصممة لحماية الأسرة وكل ما في داخل القلعة. من الناحية اللوجستية، يمكن مقارنة المنزل الأفغاني بالمخزن الذي يتم فيه الاحتفاظ بالإمدادات للاحتياجات المستقبلية المفترضة. تتشابه إمدادات التخزين في البيت الأفغاني مع "نظام الدفع" لا "السحب"، وهذا ما شكل معضلة كبرى لقوى التحالف في تدريبها الجيش الأفغاني على مواجهة "المتمردين".
Related Posts
أسرة تحرير الخندق