أدار الثلاثي الحرب بكفاءة تكتيكية وضياع استراتيجي. أولمرت نفسه قال في مقابلة للقناة العاشرة عام 2015 أنه 'لا يعرف سلاح جو في العالم يستطيع القيام بما فعله سلاح الجو الاسرائيلي'" آنذاك. الحال نفسه قامت به قوات المشاة على الأرض؛ إنزالات خلف الخطوط، عمليات موضعية تنزل الهزيمة النفسية بالخصم؛ لكن النتيجة كانت فشلاً كارثياً في تحقيق الغاية النهائية للأعمال العسكرية وهي الوصول لنهر الليطاني."
حرب لبنان الثانية: محرقة القيادات
إلداد كان مغرماً بكرة القدم، حتى أن أصدقائه في دورية الحراسة نظموا جدول مناوباتهم بحيث يستطيع مشاهدة المباريات المهمة في كأس العالم ذلك العام. لم يكن يدري أن البلد المنظم لتلك الدورة هو الوحيد "في هذا العالم" من سيستطيع استعادة رفاته. حتى أن الفرصة لن تسمح له بالتعرف على الفائز بالبطولة.
إيهود كان على عكس زميله تماماً، لا يكترث لكرة القدم لذلك كان ينوب عنه أثناء المباريات. إلا أن أيّ هواية لديه لم تكن لتدفع عنه القادم.
***
تكثفت تحركات عناصر حزب الله في النصف الأول من العام 2006. في الجبهة المقابلة استشعرت قيادة المنطقة الشمالية على ما يبدو خطراً ما دفع بها للقيام بمناورة ضخمة أسمتها "دمج الأذرع" حاكت من خلالها عملية خطف جنود اسرائيلين وأساليب مواجهة احتمال كهذا. حددت الاستخبارات العسكرية بحسب معلوماتها الـ27 من حزيران تاريخاً محتملاً لعملية أسر يمكن أن يقوم بها حزب الله. قررت القيادة رفع مستوى التأهب لدرجة "تأهب عالٍ جداً" وأوكلت المهمة لوحدة إيغوز من وحدات النخبة. كان هدف الوحدة الإيقاع بالمجموعة المعادية التي ستنفذ عملية الأسر. في الثاني من تموز تم تخفيض درجة التأهب ليعود الجنود لتحركاتهم الروتينية بحذر.
قبيل أقل من 24 ساعة، تلقى غال هيرتش قائد الفرقة 91، تقريراً من أجهزة المراقبة يشير إلى تواجد 20 عنصراً من حزب الله قرب النقطة 105. وهي مكان تنفيذ العملية لاحقاً. اعتمد عناصر الحزب على هذه النقطة باعتبارها نقطة مخفيةً عن الموقع الأقرب إليها في تلة الراهب.
12 تموز 2006. استعدت الآليتان (باسيمون4) و(باسيمون 4أ) عند الساعة الثامنة صباحاً لأخذ جنود الاحتياط في دوريتهم الأخيرة. حملت الأولى 4 جنود والثانية 3 جنود. وصلت الدورية الى النقطة 105 عند التاسعة تقريباً. كان أفراد حزب الله في المكمن. باقي الحكاية تعرفها "إسرائيل".
انقضى نصف الساعة الأولى قبيل وصول أول مروحية اسرائيلية إلى المكمن. بعدها بقليل، سارعت قيادة الأركان لتعميم كلمة السر(هانيبال) والتي كانت تعني أن جندياً اسرائيلياً قد تم أسره. ساد غال هيرتش وفرقته حال من الإرباك حتى الساعة 11. حذّر آمر الكتيبة المكلفة بتنفيذ خطة هانيبال من حجم تحضيرات حزب الله لردة الفعل في عملية كهذه. وقدر أن الحزب قد أعد مجموعة من العبوات والألغام. اختلف تقدير الحاضرين في قيادة الشمال حول طبيعة رد الفعل المتوخى. وبعد الكثير من التقديرات، دخلت دبابة ميركافا تتبعها ناقلة جند وطوافة عسكرية. لم يتجاوز أي من الآليتين مسافة 70 متراً بعيداً عن السلك الشائك، قبل أن ينفجر لغم أرضي بهم. لتنتهي خطة هانيبال بـ8 قتلى وعشرين جريحاً، بالإضافة لأربعة جثث عند موقع عملية الأسر وجنديان لا أحد يعرف أحد مصيرهما.
لم تستوعب القيادة العسكرية حجم الحدث إلا مع تناهي أرقام القتلى إلى مسامعها. وبعد كل المناورات والتدريبات والمعلومات من مراكز المراقبة والاستخبارات، أخذت الخلافات بين القادة العسكريين بالظهور إلى العلن. ليشكل منصب قائد العمليات البرية مطمعاً لعدد من القادة العسكريين طوال الحرب. لم يكن المنصب هذا المطمع الوحيد، قيادة الأركان كانت هي الأخرى مطمعاً أكبر. هذا يفسر بعضاً من صراعات الجنرالات في قيادة الأركان، وجزءاً من خلافات قيادة منطقة الشمال مع هيئة الأركان، مع قيادة وحدات النخبة. كانت الخطط محكومة بالفشل من قبل أن تبدأ. مجريات الأعمال الحربية، تكتيكات تقدم القوات، كلها أمور كانت محل نزاع وجدل وفشل، حتى فيتسمية الحرب؛ "هل كانت معركةً أم حرب؟". لم يحسم الأمر قبيل انتهاء العمليات العسكرية في الرابع عشر من آب.
حالوتس، بيرتس، أولمرت: في مواجهة محرقتين
بعيداً عما كتب حول الحرب. ثمة مسألة قلما عرج عليها الباحثون. في كل مرة تخوض فيها إسرائيل حرباً ثمة محرقة يوقدها المناوئون لها من داخل النسيج الإسرائيلي. تضيع الاستراتيجيا في زحام التنافس الداخلي؛ هذا ما لاحظه عدد من الباحثين الإسرائيليين بعيد حربي تموز 2006 وغزة 2009. ولعل حرب تموز كانت اللحظة التأسيسية الأولى لهذه المعضلة. في الحرب، وجد ثلاثي حالوتس، بيرتس، أولمرت نفسه محاصراً بين جبهتين، إما أن ينتصر بهما معاً او يخسر كل شيء. الأولى مع حزب الله، والتي أظهر فيها سوء تقدير لقدرات الحزب. أما الثانية فكانت مع الداخل الاسرائيلي؛ هنا أيضاً أثبت الثلاثي هذا سوء تقدير لوضعه الداخلي.
لفهم المشهد لا بد من التذكير بإن وضعية أولمرتلم تكن مريحة. وراثة أرييل شارون في رئاسة الحكومة والحزب (كاديما) كانت أمراً ثقيلاً عليه. الأمر نفسه كان بالنسبة إلى وزير الدفاع القادم من العمل النقابي والعمالي. أما دان حالوتس قائد الأركان، فقد رفع وجوده في هيئة الأركان من مستوى الخلافات في صفوف الجيش. كانت المرة الأولى لجنرال قادم من سلاح الجو في هذا المنصب. قيادة القوات البريةاعتبرت ذلك أمراً غير مقبول. هم يرون أنفسهم الأقدر على قيادة المعركة. الأرض برأي هؤلاء هي الأساس في الحسم العسكري، وسلاح الجو لا يشكل أكثر من أداة لدعم وإسناد القوات البرية.
أدار الثلاثي الحرب بكفاءة تكتيكية وضياع استراتيجي. أولمرت نفسه قال في مقابلة للقناة العاشرة عام 2015 أنه "لا يعرف سلاح جو في العالم يستطيع القيام بما فعله سلاح الجو الاسرائيلي" آنذاك. الحال نفسه قامت به قوات المشاة على الأرض؛ إنزالات خلف الخطوط، عمليات موضعية تنزل الهزيمة النفسية بالخصم؛ لكن النتيجة كانت فشلاً كارثياً في تحقيق الغاية النهائية للأعمال العسكرية وهي الوصول لنهر الليطاني.
التغييرات السريعة في قيادة العمليات البرية أثناء الحرب كانت دليلاً على غياب بعد النظر لدى ثلاثي إدارة الحرب. عدم تحديد هدف واضح للحرب كذلك (إيقاف الصواريخ؟ ضرب البنية التحتية لحزب الله؟، إعادة الجنديين؟...)، العلاقة المتوترة بالإعلام الإسرائيلي نفسه. بالمحصلة، لم يُعد العمل العسكري الجنديين،ولا علم أهالي الجنود مصير أبنائهم، ولا ضربت البنية التحتية لحزب الله بالكامل، ولا الصواريخ توقفت على العمق الإسرائيلي، ولا المؤسسة الإعلامية الاسرائيلية رحمت ثلاثي إدارة الحرب.
17 أيلول 2006. تشكلت لجنة حكومية يرأسها القاضِ إلياهو فينوغراد. عرفت اللجنة باسم "لجنة فينوغراد". كانت مهمتها تقييم أداء المستويين العسكري والسياسي خلال الحرب. بعيد سنة ختمت اللجنة تقريرها بالقول: "لقد فشلنا في الحرب، نستطيع القول أنها كانت إضاعةً لفرصة كبيرة و خطيرة. إننا نحمل المسؤولية الأساسية لرئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس الأركان".
صدور هذه النتيجة كان بمثابة شهادة الموت السياسي والعسكري لهؤلاء الثلاثة. لم يشفع لأولمرت تعيينه لوزير دفاع من حزب العمل، تاريخ بيرتس بين العمال والفقراء لم يستعطف أحداً، أما حالوتس بالتحديد فكان مستقبله قد كتب على أيدي عناصر حزب الله خلال الحرب، لقد كان قاتماً كما يعرف الجميع.
"Related Posts
كاتب سوري