Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

نشأ أول بنك مركزي في السويد عام 1668، وتبعه عام 1694 بنك انكلترا، وعلى رغم أنّ أغلب تشريعات البنوك المركزية في العالم صادرة في قوانين عادية، بيد أنّ بعض مواثيق البنوك المركزية أصبح له قيمة شبه دستورية

أسامة رحال

البنوك المركزية بين الاستقلالية والمساءلة

"

نشأ أول بنك مركزي في السويد عام 1668، وتبعه عام 1694 بنك انكلترا، وعلى رغم أنّ أغلب تشريعات البنوك المركزية في العالم صادرة في قوانين عادية، بيد أنّ بعض مواثيق البنوك المركزية أصبح له قيمة شبه دستورية. ومع ذلك فإنّه تغيب غالبًا دراسة استقلالية البنوك المركزية خلال دراسة النظم الديمقراطية، مع أنّ مدى استقلاليتها وطبيعة أدائها مؤشرٌ مهمٌ لتشخيص طبيعة النظام السياسي وآليات صناعة القرار فيه. ومهما كثُرت المآخذ على مؤشرات ليبهارت وتصنيفاته، تبقى دراسة الأدوار التي تضطلع بها البنوك المركزية من ناحية قانونية وحقوقية ذي أهمية بالغة. 


مهام السلطة النقدية:
ثمة ثلاث أهداف رئيسية للسلطات النقدية الحديثة: الأول والأهم هو الحفاظ على الاستقرار السعري، ويعني ذلك حاليًا الحفاظ على معدل متدني من التضخم. الهدف الثاني هو الحفاظ على اقتصاد متوازن يسمح بنمو اقتصادي حقيقي مستدام ويخلق معدلًا عاليًا من فرص العمل. أمّا الهدف الثالث فهو الحفاظ على الاستقرار المالي، ما يعني سيّر أنظمة المدفوعات بسلاسة.


أنواع الاستقلالية:
يمكن تقسيم مفهوم استقلالية البنوك المركزية إلى أسلوبين: استقلالية الأدوات، بمعنى أنّ البنك المركزي يكون مستقلًا عن أي تدخل فيما خص الاستراتيجيات التي يرتئي تطبيقها للوصول للأهداف التي تكون موضوعة من قبل السلطات الحكومية أو حتى التشريعية للسياسة النقدية وليس منه، ويعتبر بنك انكلترا  أحد أبرز الأمثلة على التمتع بهذه الاستقلالية. استقلالية أهداف السياسة النقدية، وفي حال اعتمادها يكون للبنك المركزي الاستقلالية في تحديد الأهداف التي يرتئيها وليس فقط الأدوات المناسبة لها، ويقدم البنك الأوروبي انموذجًا لهذا النوع من الاستقلالية. كما يجب التفريق بين الاستقلالية القانونية، أي تلك التي تعطيها الأنظمة والقوانين للبنوك المركزية، والاستقلالية الواقعية، أي مدى الاستقلالية الفعلية التي تتمتع بها البنوك.


تطور المفهوم:
نشأت البنوك المركزية في البدء كشركات خاصة، فلم يُطرح أصلًا مفهوم استقلاليتها بالمعنى المعاصر، ومارست دور بنك البنوك، بحيث أودعت البنوك أموالها لديها. واتسعت أدوار واستقلالية البنوك المركزية ما بعد الحرب العالمية الأولى، لكنّ أزمة الكساد الكبير كرسّت إعادة التدخل الحكومي المباشر في السياسات النقدية، فارتبط مثلًا الاحتياطي الفدرالي–وهو بمثابة البنك المركزي–الأمريكيFederal Reserve System بوزارة الخزانة. ولم تعاد الاستقلالية لاحتياطي الفدرالي حتى خمسينات القرن الماضي. كما انتظرت بنوك مركزية كثيرة حتى التسيعنات من أجل أن تحصل على استقلاليتها. وكان أحد أسباب الدفع نحو هذا الاتجاه، رؤى صندوق النقد الدولي، بحيث ارتفعت باطّراد منذ 1985 إشارات الصندوق إلى حاجة تعزيز استقلالية البنوك المركزية، في المساعدات الفنية التي يقدمها للدول، تحت حجة إبعاد السلطة النقدية عن الضغوطات السياسية. مع أنّ الصندوق نفسه حينما يُقدم مساعدته يقود إلى نوع من التبعية له وللانموذج الاقتصادي الذي يمثل. فتقلّص سيادة الدول في تحديد سياساتها النقدية لمصلحة الامتثال لمعايير دولية، منحازة مسبقًا لفلسفة اقتصادية معيّنة.


الاستقلالية لا تعني عدم المساءلة:
صحيحٌ أنّ أحد دوافع إعطاء البنوك المركزية استقلاليةً، هو تجنيبها الضغوطات اليومية والموسمية التي قد يمارسها الساسة، خصوصًا في فترة الانتخابات، لكنّ الحديث عن سلطة نقدية مستقلة لا يعني تحولها لسلطة بمعنى power موازية للسلطات الثالث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. لذا فإنّ هذه الاستقلالية لا تعني بأيّ حال انعدام التنسيق بين السياستين المالية والنقدية ضمن إطار مؤسساتي متكامل. ولا يجب تفسير معنى الاستقلالية بشكل يجعل إدارة البنوك المركزية فوق أيّ آلية من آليات المحاسبة، إذ ليس ثمة دولة ديمقراطية ودولة قانون حديثة دون إخضاع جميع المشتغلين في الشأن العام للمساءلة، خصوصًا في الحالات التي يكون فيها واضحًا مدى عدم مراعاتهم لواجبابهم الأهم بالنسبة لبنك المركزي وهو الحفاظ على الاستقرار السعري. لذا فإنّ جواب جون مورموراس – نائب وزير المال اليوناني السابق - حول الإشكاليات الديمقراطية المتعلقة بمبدأ الضوابط والتوازنات checks and balances والتي تطرحها استقلالية البنوك المركزية تمحور حول الحاجة إلى زيادة شفافيتها كلما توسعت أدوارها ومهامها ومدى استقلاليتها. ثم إنّ رفع مستوى الشفافية يجب أن لا يتم فقط لمصلحة المؤسسات الدولية والأجنبية – بالنسبة للدول النامية - والمشرعيّن والسلطات الحكومية المحلية، بل أيضًا لمصلحة المواطنين ودافعي الضرائب.


الاستقلالية في زمن الأزمات:
مع ظهور أزمة الديون السيادية في دول الاتحاد الأوروبي اشترى البنك المركزي الأوروبي أوراقًا مالية حكومية، فاصبح دائنًا لأهم الحكومات، وافتُقدت الحدود الفاصلة بين السلطة النقدية والمالية. وهكذا سقطت كل معايير الاستقلالية: إذ يعتبر الرأي الحديث حول مفهوم الاستقلالية أنّ احد أشكال تبعية البنوك المركزية للحكومات هو اقراض هذه البنوك المال للدولة، بحيث يغدو من مهام السلطة النقدية سد عجز الموازنات. وسبق إجراء البنك المركزي الأوروبي هذا اتّباع العديد من البنوك المركزية بتكليف مباشر من حكوماتها سياسات نجم عنها توسّع في ميزانياتها العمومية وازدياد في المهام التي تضطلع بها، تحت وطأت الأزمة المالية العالمية. 
مما يعني أنّه كثيرًا ما تفقد البنوك المركزية خلال فترات الأزمات الاسقلالية الفعلية التي ينادى بها تحت عناوين الحوكمة الرشيدة. فتعود السلطات الحكومية والتشريعية للتدخل المباشر في رسم وتطبيق السياسيات النقدية بشكل تفصيلي، مما يقود للتساؤل الفعلي عن مدى نجاعة هذا المبدأ، إذا كانت كل أزمة ستؤدي إلى التقليص منه، لاسيّما راهنًا في ظل التباطؤ الكبير الحالي والمتوقع في الاقتصاد العالمي مع أزمة "الإغلاق الكبير" بعد انتشار جائحة فيروس كوفيد-19، والذي سيؤدي حتمًا لتدخل حكومي بل ودولي مباشر في السياسة النقدية. 

 

مراجع:

- Bordo, M. D. (2007). A Brief History of Central Banks. Cleveland: Federal Reserve Bank of Cleveland.

- Mourmouras, J. (. (2016). Central Bank Independence Revisited in the Era. Financial stability in an uncertain global environment (pp. 1-14). Kuala Lumpur: The South East Asian Central Banks Research and Training Centre.

- توبياس آدريان، أشرف خان. (2019, 11 25). صندوق النقد الدولي. Retrieved from www.imf.org: https://www.imf.org/ar/News/Articles/2019/11/25/central-bank-accountability-independence-and-transparency

- ليبهارت, أ. (2015). أنماط الديمقراطية. بيروت: شركة المطبوعات لتوزيع والنشر

- هبة عبد المنعم، الوليد طلحة. (2019). موجز سياسات استقلالية البنوك المركزية. أبو ظبي: صندوق النقد العربي

"

كاتب حقوقي لبناني