يُسهم التعقيد الذي تتّسمُ به العلاقات الروسية- الإيرانية في إعطاء "إسرائيل" هامش للمناورة مع موسكو، لكن سؤالاً حول هذا الهامش لا يزال يراود الإسرائيليين: ما الدور الذي سيلعبه الروس في حالة الطوارئ؟، أي تلك الحالة التي قد تتطور فيها المواجهة مع الإيرانيين إلى حدود الحرب؟
روسيا كتحدٍ للأمن القومي الإسرائيلي
تحاول موسكو التغلّب على نقاط ضعفها الاقتصادية من خلال انخراطها في عقود استراتيجية مع دول المتوسط. الأمر الذي يمكن أن يمنح روسيا أدوات ضغط مُستقبلية على هذه الدول. تُحاول روسيا الاستفادة من مزاياها النسبية من خلال: بناء محطات طاقة نووية، الاندماج في مشاريع النفط والغاز، وتوفير المنتجات الزراعية، ولكلّ من هذه النقاط تداعيات على المصالح الإسرائيلية بنحو كبير. فهي تعرض التفوق العسكري الإسرائيلي للخطر (عبر إعادة تأهيل الجيش السوري ومبيعات الأسلحة لإيران ومصر). وتوفّر بديلاً للولايات المتحدة في مساعدة دول المنطقة على تعزيز قدراتها النووية (تقوم روسيا ببناء مفاعلَين اثنين في إيران، أربعة في مصر، وأربعة في تركيا). أضف لتضارب المصالح بين "إسرائيل" وروسيا فيما يتعلّق بصادرات الغاز الإسرائيلية لأوروبا، وللنقطة الأخيرة مركزيتها الكبرى في اختلاف وجهات نظر الطرفين.
***
تشهد العلاقات الإسرائيلية - الروسية حالة من المدّ والجزر منذ العام 2015 (تاريخ دخول موسكو في الحرب السوريا). تريد روسيا استعادة مكانتها ودورها التاريخي كقوة عظمى ولاعب مُهم في المنطقة. في المقابل تبدو "إسرائيل" مربكة في التعاطي مع "الزائر الجديد" للمنطقة.
وعلى الرغم من حالة الثبات النسبي والتعاون والتنسيق بين الطرفين، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تضارباً في المصالح والعديد من القضايا الخلافية بينهما. وإن حالت براجماتية الطرفين دون تدهور العلاقات، ومنع اندلاع أية مواجهة مباشرة بينهما.
في دراسته الصادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي" بعنوان "روسيا باعتبارها تحدياً للأمن القومي الإسرائيلي: هل هي حقاً نمر من ورق؟" يحاول دانيئيل راكوف إلقاء الضوء على طبيعة العلاقات الإسرائيلية - الروسية في ظل تضارب المصالح بين الطرفين، منطلقاً من سؤال رئيس: هل أن روسيا نمر من ورق أو "مُتنمّر في الجوار" لا داعي للقلق منه؟. أم أنها فعلاً قوة حقيقية قادرة على تحدّي الأمن القومي الإسرائيلي بشكل فعلي؟. برأيه لم تستطع النخبة السياسية والأمنية الإسرائيلية أن تُحدّد بعد إجابة حاسمة على هذا السؤال. وقد شهدت الأشهر الأخيرة تساؤلات فيما إذا كان الدور الروسي سيتراجع أو يزداد قوةً ارتفاع حدة التوتر شمال البحر الأسود عامة، وفي أوكرانيا على وجه التحديد.
تعرّضت العلاقات الإسرائيلية الروسية لانتقادات من قِبَل حلفاء "إسرائيل" في الولايات المتحدة وأوروبا، فهم لا يُخفون انزعاجهم من قيام الأخيرة بإضفاء الشرعية على روسيا ونشاطاتها من خلال المكالمات الهاتفية واللقاءات المتكرّرة مع فلاديمير بوتين. من جهتها، تُعرب "إسرائيل" عن امتنانها الدائم للجيش الأحمر السوفييتي الذي ساهم في تحرير معسكرات الإبادة في أوروبا الشرقية وهو ما يظهر بشكل علني في تقدير "تل أبيب" لروسيا وجيشها بوصفه وريث الجيش الأحمر. ظهور نتنياهو في موكب النصر في موسكو عام 2018 كان محطة مفصلية بالنسبة للأوروبيين. زيارة بوتين لـ"إسرائيل" كجزء من منتدى الهولوكوست عام 2020 كان باباً للسؤال حول حقيقة ما تقوم به تل أبيب بالنسبة للأميركيين.
ومع ذلك، لا يبدو أن ثمة إجابات حاسمة عند أي من الأطراف ذات الصلة أو المراقبة. ماذا تريد "إسرائيل" من موسكو؟ وماذا يريد الروس من تل أبيب؟
يعتقد الروس أن لإسرائيل تأثيراً حاسماً على استراتيجية الولايات المتحدة. كما يعتقدون بأن لتل أبيب قدرة على صياغة تفاهمات سياسية مع واشنطن تضمن انسحاب القوات الأميركية من الشمال والشرق السوري. لتل أبيب أيضاً وفق المنظار الروسي تأثير كبير في مسألة إعادة إعمار سوريا. في المُقابل، يُمكن للروس أن يقدّموا ضمانات أمنية في الجنوب والشمال السوري، تكون بمثابة ورقة تعزز من نفاذ تل أبيب في أروقة القرار الأميركي والأوروبي عامة.
وعلى الرغم من أهمية هذه المسألة، ما تزال "إسرائيل" بالنسبة إلى موسكو كياناً غربياً بامتياز. كما أن علاقات تل أبيب الأمنية والاقتصادية مع الولايات المتحدة والغرب ما تزال أكبر من تلك القائمة مع روسيا. تعي موسكو ذلك، وهي تعلم أنه وفي اللحظات التي تُجبر فيها "إسرائيل" على الاختيار بين موسكو وواشنطن فإنها ستختار واشنطن دون تردد. تسليم "إسرائيل" للهاكر الروسي ألكسي بوركوف إلى الولايات المتحدة نهاية العام 2019 كان مثالاً صارخاً في هذا السياق. ما يفرض على موسكو تجنيب تل أبيب حالة الـ"إما وإما" - أي اجبارها على الاختيار: أما روسيا أو الغرب – كي لا تظهر حدود التأثير الروسي الضعيف في العلاقة مع تل أبيب.
بالنسبة لإسرائيل، تُعتبر حرية العمل العسكري في الجبهة الشمالية وإمكانية الحصول على المساعدة الروسية لمنع التموضع الإيراني في سوريا، قضايا على مستوى من الأهمية. وفي غضون خمس سنوات، يُمكن الاستنتاج بأن نهج الحوار مع موسكو قد أتى بثماره بالنسبة للكيان الصهيوني. فعلى الرغم من المد والجزر الذي تشهده العلاقة بينهما، إلا أن تل أبيب استطاعت الحفاظ على حرية عمل جيشها بشكلٍ عام في سوريا، مع تجنّب روسيا للمواجهة المباشرة مع إسرائيل.
من ناحية أخرى، تبذل روسيا جهوداً كبيرة لمنع "إسرائيل" من تجاهل مصالحها. وفي مقدّمة هذه المصالح مسألة بناء شرعية الوجود الروسي في سوريا كقاعدة لتقوية نفوذ موسكو الإقليمي. ولهذا، نشهد انتقادات روسية دورية لتحرّكات "إسرائيل" العسكرية في سوريا، نظراً لاستياء موسكو من الحوادث العملياتية التي قد تُلحق الأذى بالجنود الروس (على غرار حادثة إسقاط طائرة روسية في أيلول 2018)، واستمرار إحراج الروس أمام شركائهم الإيرانيين، كما والإضرار بسمعة منظومة الأسلحة الروسية المتواجدة بأيدي الجيش السوري والتي يتم تدميرها من قِبَل الجيش الإسرائيلي بشكل دوري.
ومع ذلك، يُسهم التعقيد الذي تتّسمُ به العلاقات الروسية- الإيرانية في إعطاء "إسرائيل" هامش للمناورة مع موسكو، لكن سؤالاً حول هذا الهامش لا يزال يراود الإسرائيليين: ما الدور الذي سيلعبه الروس في حالة الطوارئ؟، أي تلك الحالة التي قد تتطور فيها المواجهة مع الإيرانيين إلى حدود الحرب؟. وعلى الرغم من أن مصلحة روسيا تُجبرها على احتواء التصعيد ومنع تطوّره لحرب واسعة بشكل سريع دائماً، إلا أنه قد تراود موسكو رغبة تحدي "إسرائيل" في الوقت الذي تتضارب فيها مصالح البلدين، أو حتى في حالة إلحاق "الأذى غير المقصود" بالقوات الروسية.
Related Posts
صحيفة الخندق