عند قراءة أي حدث مستجد في مناطق الضفة، لا بد من الالتفات إلى مسألة جوهرية، هي أن الفعل المقاوم المنظم هناك قد تمت تصفيته بشكل شبه نهائي، ما بين عامي 2002 و2010 على أبعد تقدير، حيث لم يبقَ من المقاومة سوى فكرتها وإرثها المعنوي
لماذا لا يقتلون المزيد؟
عند قراءة أي حدث مستجد في مناطق الضفة، لا بد من الالتفات إلى مسألة جوهرية، هي أن الفعل المقاوم المنظم هناك قد تمت تصفيته بشكل شبه نهائي، ما بين عامي 2002 و2010 على أبعد تقدير، حيث لم يبقَ من المقاومة سوى فكرتها وإرثها المعنوي.
عقدان إلى الوراء
تمتاز الخارطة الفلسطينية بالطول وتفتقر إلى العمق، وهذا ما جعل الضفة، ربع مساحة فلسطين، تتمركز في وسط البلاد، رغم كونها على مستوى العرض تبدأ من الحدود الأردنية شرقًا. لقد مَنَح البُعد الجغرافي للضفة جبالها موقعًا عسكريا حساسًا ومُشرفًا على مناطق الداخل المحتل. ومع اندلاع انتفاضة الأقصى في مطلع الألفية، قام الشعب الفلسطيني، بمدنييه وعسكرييه، بتفعيل العامل الجغرافي واستثماره، حتى صارت المقاومة المنبعثة من الضفة تشكل كابوساً لدى قادة كيان الاحتلال. واصفًا واقع ما بعد الانتفاضة؛ كتب "فيليكس فريش" حينها في صحيفة "يديعوت أحرنوت" في مقالة بعنوان (البنية التحتية للإرهاب انتعشت مجددًا) ما يلي: "البنية التحتية للإرهاب في المناطق هي جميع الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و50 عامًا". بَلَغَت الانتفاضة مَبلغًا جعل من العمليات الأمنية المتفرقة ضد المقاومين أمرًا غير ذي جدوى، بل أكثر من ذلك، كانت منابع التهديد أخطر من أن تُحتَمَل وأصعَبَ من أن تُضبَط!كان مُقَدرًا للعمل المقاوم في أراضي الضفة الغربية أن ينتقل إلى مستوى جديد نوعًا لا كما فحسب. ذلك أنه وبالإضافة إلى العمليات الفدائية وزرع العبوات والكمائن المسلحة، كان "نزيه أبو سباع"، الرجل الثاني في كتائب القسام في جنين، يعمل على نقل تجربة الصواريخ من غزة، قبل أن يتم اغتياله بسيارة مفخخة. حينها، وصف "آرييل شارون" اغتيال الشهيد أبو سباع بالتخلص من قنبلة موقوتة.
لم تَخمُد انتفاضة الأقصى بمرور الأشهر رغم الحملات الأمنية والعسكرية العنيفة لجيش الاحتلال، بل إن وتيرة العمليات وَحِدتها كانتا في تطور مستمر. إلى أن كان شهر آذار من العام 2002، أكثر الشهور مأساويةً على الاسرائيليين، إذ قُتِل فيه أكثر من 100 شخص، حتى أسماه شارون: "آذار الأسود"! كان الغضب الفلسطيني المُنْصَب على رؤوس قادة الكيان آنذاك تهديدًا حقيقيا للمشروع ولفكرة الأمان فيه. تلك الفكرة التي تم إغواء يهود العالم بها، كانت قد أصبحت بين كفي الانتفاضة، وكان الهواء ينقطع عنها يومًا إثر يوم. وَبَلَغَ ذلك شهر ذروته في السابع والعشرين منه، يوم عملية "بارك أوتيل"، التي كلفت الاحتلال 30 قتيلاً والمئات من الجرحى، وقد عُرِفَت في أدبيات الصهاينة بـ "مجزرة عيد الفصح". بعدها بيومين، أطلق آرييل شارون آلة القتل والتدمير في عملية شاملة على كافة مناطق الضفة. إن تسمية "السور الواقي" التي عُرِفَت بها تلك العملية، عكست خوف الصهاينة من الرعب القادم من الضفة الغربية، ولا عَجَبَ أن صحيفة معاريف قد كَتَبَت ذات مرة في العام 2004 – وكان جسد المقاومة ما زال ينبض بالحياة حينها: "الإرهاب عاد، لأنه لا يوجد جدارٌ هناك!".
كان رئيس حكومة الاحتلال آرييل شارون يهدف إلى إشراك الفلسطينيين أنفسهم في حل المعضلة الطارئة، أي أنه وإضافةً لعملية الاجتياح، أراد أن يقضي على المقاومة بأياد فلسطينية. لكن فكرةً كهذه كانت تحتاج إلى تهيئة المقدمات، إذ إن عددًا كبيرًا من عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية كان منخرطاً في المواجهات لصالح الانتفاضة لا في وجهها، أي أن التصميم الذي تم ابتداعه في أوسلو، قد انقلب على مهندسيه. تم وَضعُ مخطط يُمهد للانتقال من المواجهة العسكرية إلى الحل السياسي، وكان الكاتب الصحفي "عوزي بنزيمان" قد فند ذلك المخطط في دراسة نُشِرت في صحيفة "معاريف" في أيار 2002 تحت عنوان: "ها هو يتسلق الشجرة مرةً أخرى"، ويمكن اختصاره بالتالي:
- يتعين على السلطة الفلسطينية إحداث إصلاح شامل يقود إلى انتهاج الديموقراطية في حكمها.
- الشفافية فيما يتعلق بحركة الأموال التي تمر عبر السلطة.
- توحيد أجهزة الأمن الخاضعة للسلطة.
تلك البنود الثلاث تَتَمحور حول هيكلة الواقع الجديد، فالديموقراطية "المنشودة" إسرائيليا هي تلك التي تسمح بـ "تنقية" مناصب القرار ممن يُشتبه بنزعته المقاومة، وكَشْفُ حركة الأموال يهدف إلى تجفيف منابع العمل المقاوم أو تشخيصها وضبطها على أقل تقدير، أما البند الثالث، فهو مَعني بالسيطرة على عناصر الأمن لعدم تكرار نموذج عنصر الأمن المقاوم.
يعرف الاسرائيلي ومِن خَلْفه الأميركي أكثر من غيرهما أن العنف والقتل لا يُغير شخصية الرجل الفلسطيني، أو لنقل أنهما أيقنا ذلك خلال الانتفاضة الثانية، لذا كان لا بد من "صناعة الفلسطيني الجديد"، الذي ينقل المخطط إلى مرحلة التنفيذ. ومن أجل هذا جاء "دايتون"...
"كيث دايتون"، القائد الثاني للفريق الأمني الأميركي، هو من أطلق مصطلح "الفلسطيني الجديد"، ويرمي به إلى الفلسطيني المُدَجن، الذي يقبل العيش بسلام مع "اسرائيل". في المُحصلة، ولأن الكلام يطول هنا، وُلِد الفلسطيني الجديد بعد جهد مُرَكز وعميق. وأصبح عناصر أمن السلطة وموظفوها أولاً، مِن رئيسها إلى أبسط حارس بوابة فيها، وجزءٌ من المجتمع المتصل بهؤلاء ثانيًا، منخرطون في عملية السلام المُعلَنة، والتي من شأنها، بل على رأس أولوياتها، محاصرة المقاومة واغتيالها أينما وُجِدَت وكيفما ظَهَرَت.
السلاح الحلال
وَصَلَ الاسرائيلي إلى درجة من السيطرة جعلته لا يخشى توفر السلاح في المجتمع الفلسطيني، ولو بقَدَر محدود، على اعتبار أنه قد تمكن من تحييد كل من يملك خبرةً في استخدامه، إما عبر التصفية المباشرة، أو الاعتقال، أو الترحيل، أو إلحاقه بمؤسسات السلطة الأمنية كما سبق وذكرنا. هذا أولًا، إضافةً إلى أنه قد بنى شبكةً استخباراتيةً بذراعَيْن، الأولى إسرائيليةٌ محضة، بقدرات تقنية متطورة، والأخرى محلية، من أزلام السلطة أنفسهم. رأى العدو أن هذه الشبكة قادرةٌ على تعقب نقل السلاح فوق الأراضي الفلسطينية، في الداخل والضفة.فأباحَ عمليات التهريب عبر مجموعة قنوات تشرف عليها أجهزته الأمنية بشكل مباشر، سواءً من داخل الضفة، أو عبر أراضي الـ 48، أو عبر منطقة الأغوار الحدودية، ويُذكَر أن السلطة الفلسطينية تشارك في التهريب إما عبر التغاضي أو عبر إبرام الصفقات في بعض الأحيان.
يمكِن قراءة وجهة النظر الاسرائيلية في مسألة تجارة السلاح عبر واقع منطقة الخليل. فتلك المنطقة وبذريعة طبيعتها العشائرية، يحكمها قانونٌ خاص يشرع تجارة السلاح وحيازته، بلحاظِ نقطة أساسية، ألا وهي وجهة استخدامه. فمن يطلق النار في وجه الاحتلال يُعتَبَر "خارجًا عن القانون".. وهذا ليس تعبيرًا مجازيا، بل إنهكذلك بالفعل!
السلاح المحرم، ليس الأخير..
أقتبس من نص لمايكل غرين وإيفان ميديروس حول تعاطي الولايات المتحدة مع الملف الآسيوي، يقولان فيه: "اعتاد لي كوان يو، الزعيم السنغافوري الراحل، أن يشتكي من أن الأمريكيين يعتقدون أن سياسة الولايات المتحدة تجاه آسيا يمكن التعامل معها كفيديو. يمكن لواشنطن أن تضغط على إيقاف مؤقت لأنها تعمل على حل المشكلات في المنزل أو في أجزاء أخرى من العالم، ثم تضغط على زر التشغيل عندما تجد التوقيت مناسبًا". أرى هذا التوصيف مطابقًا لما يحصل لرؤية الاسرائيليين تجاه الوضع الفلسطيني في الداخل والضفة. إذ اعتقدوا أنهم باتوا بمأمن من "شر" فكرة المقاومة، ولم تكفِهِم الصفعات المتتالية منذ عقد ليدركوا أن الرمق الذي ظل حيا بعد إنجاز أهداف "السور الواقي"، والذي لا يمكن الإجهاز عليه بالمناسبة، يعود للتعافي شيئًا فشيئًا، وأن "مؤسسات المقاومة" التي هدموها ليست سوى تشكيلات وظيفية تخدم الهدف الأسمى والأكثر ثباتًا، ويمكن إعادة بنائها بتبدل الظروف وتطور الحاجة، والدليل الأنصع على هذا الكلام هو "كتيبة جنين". ناهيك عن إعادة تشكيل بعض الفصائل بأسمائها وهويتها الرسمية المتعارف عليها، مثل سرايا القدس في حركة الجهاد الإسلامي، والتي صادف خلال كتابة هذه الكلمات أن تبنت الشهداء الثلاثة الذين اغتالهم العدو في جنين. فهل التنظيم هو نفسه في الضفة وخارجها؟ هل هناك تواصلٌ وتنسيقٌ فعال ومستمر؟ هل يوجد إمداد خبراتي ولوجستي بين أذرع الجهاد في غزة وجنين؟ وأنا آخذ سرايا القدس هنا كمثال للقياس لا للحصر. على الأرجح، لا. ليس هناك تواصلٌ حقيقي ولا تنسيقٌ مستمر ولا دعمٌ مادي. نعم، هناك تواجدٌ لمشروع الجهاد بالطبع، في عقيدته وأيديولوجيته وإرثه النضالي وحضور رموزه في الذاكرة الشعبية، هناك امتدادٌ معنوي يتيح تفعيل العمل المقاوم، أما على مستوى التجربة العملانية، فإن الموجود قد تم التنقيب عنه بين التراب وتحت الجدران وفي زوايا الأحياء المتخمة بالملاحم. هذا هو ظاهر الأمر، وما نعلمه، أو ما أعلمه أنا على أقل تقدير، وعليه، فإن كان الواقع يحمل ما هو أعلى من هذا القَدَر، كأن تكون أذرع الفصائل بين الضفة وغزة يشغلها جهازٌ عصبي واحدٌ، فذاكإعجازٌ بطولي دون أدنى مبالغة، وترجمةٌ لأقصى الشعارات الثورية في التراث الفلسطيني المقاوم. بل إن مجرد حصول عمليات ضد الاحتلال بوتيرة شبه يومية بعد كل ما مرت به الضفة وما ارتُكِب بحقها من تحطيم وغسل للعقول والنفوس، وبمعزل عن قراءة سياق تلك العمليات وخلفيات منفذيها، يفتح اليقين على أن المقاومة أمرٌ حتمي في فلسطين.
لربما يعلم العدو كيف دخل السلاح إلى جنين، لكنه قطعًا لا يعلم كيف يمنع دخوله، والأهم هو أنه لا يعلم كيف يمنع خروجه أو استخدامه. ولربما يعرف اسم كل من يملك السلاح في الداخل، لكنه لم يطلع على عقولهم ليستبين نواياهم. ليس أمام الاحتلال سوى الإبادة الشعبية الشاملة، كحل عملي للقضاء على المقاومة، وهو أمرٌ أعجز من أن يفكر فيه حتى. مرت أعوامٌ كانت فيها الضفة شبه يتيمة، تقاتل وتجابه وحدها تقريبًا، أما اليوم، فللضفة أخٌ أكبر في غزة، وإخوةٌ بالدم على امتداد المحور المقاوم، تتصل أرواحهم ومصائرهم لترفد السيل الذي سيقتلع الحواجز والأسوار بين أهل القدس وعاشقيها.
Related Posts
كاتب لبناني