ثمة تشابه بين معركة ستالينجراد (أواخر آب/ أغسطس 1942 وكانون الثاني/ يناير 1943) وحرب لبنان الثانية (قصف جوي من 12 تموز/ يوليو حتى 14 آب/ أغسطس 2006). يكمن هذا التشابه في كون العقيدة العسكرية للقوتين المهاجمتين (ألمانيا النازية والكيان الصهيوني) هما أرقى صياغة نظرية لتقسيم العمل العسكري كعنصر ذاتي، ولدوره في ميدان المعركة كحيز مكاني وعنصر موضوعي.
جنوب لبنان: ستالينجراد
ثمة تشابه بين معركة ستالينجراد (أواخر آب/ أغسطس 1942 وكانون الثاني/ يناير 1943) وحرب لبنان الثانية (قصف جوي من 12 تموز/ يوليو حتى 14 آب/ أغسطس 2006). يكمن هذا التشابه في كون العقيدة العسكرية للقوتين المهاجمتين (ألمانيا النازية والكيان الصهيوني) هما أرقى صياغة نظرية لتقسيم العمل العسكري كعنصر ذاتي، ولدوره في ميدان المعركة كحيز مكاني وعنصر موضوعي.
اعتمد الألمان العقيدة العسكرية للحروب الخاطفة "Blitzkrieg" كما صاغها ضابط المدرعات والمُنَظِّر العسكري النازي "هاينز جودريان/ Heinz Guderian" و التي تتمَثَّل في أعادة تنظيم أفرع التشكيلات الهجومية الألمانية بحيث تتحرك تشكيلات المشاة والدبابات سويةً تحت غطاءٍ جوي في نسقٍ واحد وفق ترتيب قتالي أو تقسيم عمل مُنظَّم بين القوات (من خلال ربطها جميعاً بشبكة اتصالات لاسلكية مباشرة في الوقت الذي تقوم المشاة فيه بحماية الدبابات من القوات المضادة للدروع بينما تتولى المدرعات اجتياح الخنادق الدفاعية، وتتحرك القوتين تحت غطاء جوي في إعادة صياغة للترتيب القتالي) وفق عقيدةٍ قتالية تنطلق من ذات الأساس المادي لتقسيم العمل الجديد في المؤسسات الصناعية الألمانية (التي استوعبت عدة أفرع صناعية تتكامل فيما بينها بغية تقليل تكلفة الإنتاج وإعادة تنظيم عمليتي الإنتاج والتبادل) ما أسهم في دخول سلاح الدبابات كسلاح رئيسي في العقيدة القتالية الجديدة التي نَظَّر لها جودريان في كتابه "احذَر- دبابة بانزر Achtung – Panzer" المنشور عام 1937.
لقد اعتمد إنتاج واستخدام سلاح الدبابات الموسّع على تلك "الصناعات المتكاملة"، كوْن إنتاج الدبابة يستلزم تفوقاً في انتاج الفولاذ عالي الكفاءة اللازم للدروع وصناعات ميكانيكية دقيقة لازمة للمحركات وميكانيكا تحريك برج الدبابة الحامل للمدفع فضلاً عن الصناعات الكهربائية الضرورية لإنتاج وحدات لاسلكية صغيرة قابلة للاستخدام داخل الدبابة ..إلخ.
من هنا يمكن القول بأن التطور في "نظرية التنظيم" التي تم استيعابها في المجتمع كبناء فوقي، بات المحدد لمقومات - تقسيم عمل - الصناعي والعسكري، قد وجد هذا التطور في النظرية أساسه في علاقات الإنتاج و تقسيم العمل داخل التكتلات الاحتكارية الألمانية (التروستات والكارتيلات) التي أسهب فلاديمير لينين في شرح آلياتها في كتابه "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية". أي أن النظرية كانت من الناحية التنظيمية (إدراكاً للذات) وجزء من تطور علاقات الإنتاج في الصناعة الألمانية ذاتها. وهو ما تجلى في إعادة تنظيم التشكيلات العسكرية الألمانية بحيث يوفر كل منها إسناداً للآخر وإعادة تنظيم منظومة الاتصالات والقيادة بينها.
من الناحية الموضوعية، شكلت هذه النظرية تطوراً لاستراتيجية "انطون هنري جوميني - Antoine Henri Jomini"، الجنرال السويسري المعاصر لكلاوسفيتز. والمعتمد ككلاوسفيتز على تطبيق مفاهيم الهندسة الإقليدية، ذات البعدين، على خريطة العمليات. إذ اعتبر جوميني العامل اللوجستي بما يشمل سهولة دعم القوات وحركتها عاملاً حاسماً.
من جهة أخرى، اعتمد الكيان الصهيوني في حرب 2006 على عقيدة قتالية قد تبدو مغايرة ظاهرياً لعقيدة جودريان في "معركة الأذرع المتشابكة" (والتي باتت النموذج الإرشادي – paradigm - للدراسات العسكرية التالية للحرب العالمية الثانية). إذ اعتمدت العقيدة العسكرية للعدو الصهيوني في حرب لبنان 2006 على نظريات effective based operations (EBO) التي طورتها أبحاث القوات الجوية الأميركية في مجال العقيدة العسكرية في تسعينات القرن العشرين، وتتلخص هذه الأبحاث في توظيف القوة الجوية لا في مجال إسناد القوات البرية على الأرض فحسب، بل وبغرض توجيه ضربات محددة لمفاصل القيادة والتحكم لدى العدو باستخدام نيران عالية الدقة. فكان من أبرز دعاة ذلك المنهج الجنرال جون "آشلي واردن John A. Warden" قائد كلية القيادة الجوية والأركان، والمساعد الخاص لشؤون الدراسات السياسية والأمن القومي لـ"دان كويلDan Quayle" نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب خلال حرب الخليج 1991. وقد ظهر تأثير نظريته، التي تعتمد على تصوير العدو في هيئة دوائر متحدة المركز (في القلب منها دائرة القيادة) بحيث يكفي استهداف محيط الدائرة المركزية، بضرب عقد اتصالاتها، لحسم تفوق القوات الجوية الأمريكية ضد الجيش العراقي.
عرفت هذه النظرية تطويرات عدة. إذ تتابعت الدراسات فيها، والتطبيقات لها في حرب يوغوسلافيا، أواخر التسعينيات، إلى أن وضعت القيادة الجوية الأمريكية عقيدتها الجديدة في 2001 بهدف رئيس هو أن الاشتباك الدقيق يخلق امكانيات مختلفة لتسخير القدرات العسكرية للأهداف السياسية. وذلك عبر "عمليات سريعة حاسمة - rapid decisive operations" (RDO) لا تعتمد بشكل كبير على الاشتباك على الأرض. في تلك الفترة كتب فيها المؤرخ العسكري البريطاني جون كيجان John Keegan : أعتقد أنه عندما سيُكتَب تاريخ حرب كوسوفو، فإنه سيُكْتَب كقصة بسيطة: كيف فاز سلاح الجو وحده بالحرب. وفي غمرة الحماس لتفوق سلاح الجو ودوره الطليعي في الحرب الحديثة، بدأ البريجادير جنرال شيمون نافيه Shimon Naveh في صياغة تصورات نظرية لكيفية التخطيط للمعركة، من خلال أبحاثه في معهد أبحاث النظريات العملياتية. في الواقع، تبدو نظريته التي أطلق عليها مسمى "التصميم العملياتي المنهجي -systemic operational design" (SOD) كتجريد مركب. في مقابلة له مع الملازم كريج دالتون Craig Dalton، عام 2006، يشرح نافيه المقصود بالضبط منsystemic operational design بالقول: هي ممارسة ذهنية تعتمد على الرؤية والتجربة، والحدس، وملكة الحكم الخلاقة للقادة، وهي إطار عمل لتطوير الخطط العملياتية التفصيلية".
تبدو ألفاظ شيمون نافيه هنا مجردة تماماً. في الواقع فإنها وإن عكست شيئاً، فهي تعكس عقداً من تطوير أطروحاتٍ نظرية وإن بدت مغايرة لعقيدة الأذرع المتشابكة/ المشتركة إلا أنها تستبطنها في داخلها. وكما كانت عقيدة blitzkrieg لدى جودريان تطويراً لادراك أنطون هنري جوميني بأهمية اللوجستيات لتحقيق التكامل بين القوات في ميدان المعركة (مع أن نظرية جودريان أكثر ديناميكية كونها تعتمد على تنسيق عمل القوات واستفادتها من إسنادها لبعضها البعض من خلال الحركة، والتقدم على محاور متوازية متساوية في العمق، بعكس ستاتيكية نظرية جوميني)، وفي ذات الوقت فإنها تعتمد العنصر الجوي، كمفهوم مكاني جديد في تصورها لمسرح العمليات.
تعتمد أطروحات جون آشلي واردن وشيمون نافيه على العنصر الرأسي، سلاح الجو، كعنصر أساسي. إنها تدرك العدو كدوائر متحدة المركز. أن الإدراك البصري للدائرة في تلك الحالة يستلزم أن يراها المراقب من زاوية 90° على قطرها الذي يمر بمركزها. فإنك لن تدرك الدائرة أي لن تدرك أنك تنظر إلى دائرة مكتملة إلا إذا كان محيطها يحيط بمركزها بما يعني أنك تنظر إليها من أعلى - من طائرة! - و ليس من نقطة رصد موازية لها، حينئذ ستبدو لك كخط منحني، وعلى ذلك تخلي الهندسة الإقليدية ثنائية البعد الطريق للمعادلات التفاضلية. وتغرق التفاصيل في التجريد الشديد. فيبدو العدو كما لو كان كتلة ساكنة يربكها استهداف بعض النقاط المفصلية، لمجرد نجاح تلك الخطوات في يوغوسلافيا. تماماً كما اعتقد الألمان أن تحقيق اختراقات متساوية في العمق متوازية عبر النسق الدفاعي للقوات السوفيتية كافٍ لإرباك قادة التشكيلات العسكرية السوفييتية وإيهامها بالتطويق ودفعها للإنسحاب غير المنظّم.
نجح هذا في البداية لكنه تحول لنقطة ضعف حين أدرك السوفييت أنه يمكن استخدام تكرار الألمان لنفس التكتيك بما يشبه الجمود التكتيكي ضد الاستراتيجية الألمانية ككل، وذلك عبر المزاوجة بين نمط الجيوش النظامية للجبهات الممتدة وبين المجموعات القتالية الصغيرة لحرب المدن، التي تجنبها الجميع منذ عهد صن تزو، وذلك عبر استخدام الشوارع والأنقاض كما لو كانت موانع طبيعية تسهل عبور مجموعات الانقضاض بتنظيمها الهجومي الذي تلعب فيه الأسلحة الخفيفة الدور الرئيسي لحين التمكن من احتلال مواقع محددة حينئذ تتحول مجموعات الانقضاض إلى نقاط ارتكاز دفاعية، تعتمد بشكل كبير على الأسلحة المتوسطة من رشاشات وأسلحة مضادة للدروع. وتنتشر بحيث تغطي نيرانها بعضها البعض.
هكذا، يصبح تقدم القوات كما لو كان تقدماً في شبكة من النيران، ويصبح الدور الدفاعي لنقاط الارتكاز هجومياً في جوهره لنشاطه على جوانب القوات المتقدمة. كذلك، فعل حزب الله في خريطة منظومته الدفاعية التي أوردها مات .م . ماثيوز Matt M Mathews، محلل المخاطر والمؤرخ العسكري بمعهد الجيش الأمريكي للأسلحة المشتركة في كتابه الصادر عام 2008 بعنوان " تم ضبطنا غير مستعدين - we were caught unprepared" الذي قيَّم فيه التطورات في مجال العقيدة العسكرية المعتمدة على القوات الجوية. فبينما كان القادة الصهاينة مستغرقين في التجريد الرياضي. واستهداف وعي وتصورات عدوهم عن المعركة من خلال نقاط تحددها تصوراتهم، كان انتشار المقاومة على الأرض جدلياً: مواقع الصواريخ ذات الدور الهجومي في استهداف عمق العدو تلعب دوراً مهماً في التنظيم الدفاعي، لوقوعها بين مجموعات الكمائن والدفاعات التكتيكية. لكي يستهدف الصهاينة مواقع الصواريخ، المدفونة بشبكة أنفاق - يرجح الباحث مساعدة إيرانية/ كورية شمالية وراءها -، بشكل جدي لا بد من التقدم على الأرض وعدم الاكتفاء بالغارات الجوية. أي أنه على القوات البرية أن تتقدم عبر شبكة من الكمائن بحيث تصبح أجنحة تشكيلاتها مُحاطة بالكمائن. وكما في ستالينجراد، تلعب المجموعات الدفاعية دوراً هجومياً لكونها تمارس دورها الدفاعي على أجنحة العدو خلال تقدمه.
يقتبس المحلل والمؤرخ العسكري مات ماثيوز في الفصل الختامي الذي يحمل عنوان استنتاجات عن نظيره الصهيوني "رون تيرا - Ron Tira" قوله:
"فشلت إسرائيل على المستويات الاستراتيجية والعملياتية والتكتيكية، ولم تنجح في إحداث قطع للرأس، أو شلل، أو عمى، أو أي تأثير آخر يضر بشكل جوهري بإرادة أو أداء قيادة التنظيم والسيطرة عليه. كما أنها لم تنجح في قمع الفعالية العملياتية لمجموعات حزب الله القتالية وتشكيلات الصواريخ الخفيفة أرض - أرض. في نهاية المطاف، لم تخلّ إسرائيل بتوازن نظام حزب الله ولم تخلق شعوراً بالعجز والضيق، ولم تدفع المنظمة نحو الانهيار المعرفي الاستراتيجي والدفع لإنهاء الحرب على الفور بشروط إسرائيل".
يقول الفيلسوف العسكري الياباني مياماتو موساتشي من القرن الخامس عشر: إن النصر مؤكد حين تحتجز العدو في إيقاع يربك روحه. يحدث هذا حين تنفصل العقيدة العسكرية عن الواقع عبر تحولها لأيديولوجيا أو لبناء فوقي لتقسيم العمل الذي أنتجها دون أن تدرك أنها نتيجة لهذا التقسيم، وبالتالي فإن مفاهيمها ليست مطلقة بحيث يمكن اسقاطها على أي تنظيم أو عمل عسكري. وهذا ما حدث مع الألمان في ستالينجراد: لقد كان الدفع بمزيد من القوات يومياً - والتي أصبحت خطوطها شديدة التداخل مع السوفييت بحيث أصبح الانسحاب مستحيلاً – كان قد أتاح للقوات السوفياتية إتمام التطويق وإسالة liquidation ("ليكفيداتسيا" وفق صيغة الأمر التنفيذي الصادر من القيادة السوفييتية) القوات النازية عبر عزلها عن بعضها، وإنهاء فاعليتها القتالية. وهو ما حدث في جنوب لبنان عام 2006 كما يبدو من تحليل رون تيرا، إذ يتضح أن قوات العدو الصهيوني لم تعد تدرك ما الذي تفعله ولا حتى المطلوب منها واحتُجزت في إيقاع يبدو لها فوضوياً لكنه منظم بالنسبة للمقاومة، ويربكها تماماً، وهو ما يمكن أن يكون أكثر تعقيداً في أي حرب مقبلة.
Related Posts
كاتب مصري