جددت "قمة النقب" التي استضافها الكيان الصهيوني نهاية آذار/ مارس الفائت بحضور وزير الخارجية الأميركي ووزراء خارجية أربعة دول عربية جدلاً كبيراً حول نزوع “إسرائيل” إلى تشكيل تحالف إقليمي على خلفية أزمات دولية وإقليمية تكتسب رؤى مشتركة يوماً بعد آخر بين أطراف القمة مثل الموقف من إيران، والصراع الروسي- الأوكراني بتشابكاته
في تفكيك استراتيجية "حلف الأطراف"
جددت "قمة النقب" التي استضافها الكيان الصهيوني نهاية آذار/ مارس الفائت بحضور وزير الخارجية الأميركي ووزراء خارجية أربعة دول عربية جدلاً كبيراً حول نزوع “إسرائيل” إلى تشكيل تحالف إقليمي على خلفية أزمات دولية وإقليمية تكتسب رؤى مشتركة يوماً بعد آخر بين أطراف القمة مثل الموقف من إيران، والصراع الروسي- الأوكراني بتشابكاته، وآفاق التعاون الاقتصادي الإقليمي، فيما همشت أجندة القمة تماماً "القضية الفلسطينية" في تأكيد غير مباشر على حصرها في نقاشات هامشية وثنائية الطابع في أفضل الأحوال، وعلى نحو يتسق أكثر.
في ظل هذا المناخ، تدعونا الحاجة راهناً لإعادة فحص الاستراتيجية الإسرائيلية التقليدية القائمة على وضع "تحالفات مُستشرَفة" مع أطراف شتى، والتي عاظمت من القدرة الإسرائيلية، وعززت من مكانتها التقليدية ككيان "وظيفي" نحو دور أكبر يمكّنها من تنسيق أزمات الإقليم وتسويتها ولعب دور قيادي في "إدارة" مشروعات تعاون إقليمي دون الإسهام بالقدر الملائم من الموارد الطبيعية. لقد طبقت "إسرائيل" استراتيجية "حلف الأطراف" في خمسينيات وستينيات القرن الفائت، وحققت من ورائها مكاسب ضخمة على حساب مصالح "دول حلف الأطراف" الإقليمية، وصولاً لسقوط بعض الأنظمة الحاكمة في هذه الأطراف، وهو ما يدعونا اليوم إلى إعادة تفحصها راهناً.
تشكل حلف الأطراف: "ما بعد فلسطين"
ارتبطت رؤية "حلف الأطراف" باختلافات جوهرية في تصور كل من الصهيونية الاشتراكية والمدرسة التنقيحية - Revisionist - (وفق ضبط إبراهيم البحراوي للمصطلح العربي) للمجال الجيوسياسي في "الشرق الأوسط". فقد نظرت الأولى للإقليم على أنه كيان عربي متجانس نسبياً فيما أكدت المدرسة الثانية على طبيعة الإقليم المنقسمة إثنياً ودينياً. وعزز هذه الرؤية آري جاكوبتنسكي Ari Jacobtinsky (ابن رائد هذا التيار فلاديمير جاكوبتنسكي) الذي تقلد منصب عضو بالكنيست عن "حيروت" – Herut، ورأى أن العالم العربي عبارة عن تكوين إمبريالي مصطنع تشكل عبر إخضاع أقليات كبيرة غير عربية وغير مسلمة، وأن صورة الوحدة العربية الرائجة قد غطاها التوتر الكبير بين المسيحيين والمسلمين، كما والسنة والشيعة. ودعى آري وعدد من منظري حركة "أرض إسرائيل الكبرى" مثل زفي شيلوَحZvi Shiloah (أول مدير للموساد) وإليعازر ليفنه E. Livneh أن التوتر الديني بشكل عام والشقاق السني- الشيعي على وجه خاص سيقود لانفجار في الشرق الأوسط. وكانت النتيجة البديهية لهذا التصور الاعتقاد بأن هذه الشروخ بين المركز والأطراف في الشرق الأوسط يمكن أن تستخدم لتيسير دمج “إسرائيل” في نظام الشرق الأوسط الفرعي.[1]
وجاءت استراتيجية "حلف الأطراف"، في واقع الأمر، كمحصلة منطقية للصلة الإسرائيلية البريطانية تحديداً، دون أن تخرج عن سياقات ذهنية الدبلوماسية البريطانية في "الشرق الأوسط"، فقد بلورت الاستراتريجية توجه “إسرائيل” مطلع خمسينيات القرن الماضي نحو تمتين توجهاتها الغربية، والتخفف من تقديم نفسها كنموذج لدول "محايدة" بعلاقات جيدة مع الاتحاد السوفييتي، حسب تفاصيل أوردها "يوري بيالر Uri Bialer" في دراسة وثائقية مهمة عن توجهات سياسة “إسرائيل” الخارجية 1948-1956،[2] مثلما رصد في تحرك البريطانيون منتصف كانون الثاني/ يناير 1951 عندما طلب وليام سترانج W. Strang مساعد الوزير الدائم بوزارة الخارجية البريطانية Permanent Under-Secretary من سفير “إسرائيل” في لندن الحصول على ترخيص بلاده لزيارة يقوم بها الجنرال روبرتسون "لاستكشاف فكرة تحالف pact مع “إسرائيل” أو "نوع من التحالف معها إما على أساس إقليمي (إن أمكن) أو ثنائي". وكان لديه تصوران واضحان تماماً أولهما إقامة قواعد بريطانية في غزة يمكن ربطها بممر إلى الأردن؛ أو إقامة قواعد بريطانية "في إسرائيل ذاتها". وبالفعل حضر التصوران في أجندة زيارة روبرتسون ومناقشاتها "على أعلى المستويات" (بمن فيهم بن جوريون وشاريت وولتر إيتان W. Eytan المدير العام لوزارة الخارجية، وريوفين شيلوح Reuven Shiloah، الخبير الأمني والاستخباراتي البارز).
طبعاً، رفض بن جوريون المقترحين تماماً بل وشن هجوماً قاسياً على سفير حكومته في لندن لأنه بنقله رسالة لندن "شخصياً" قد رفع توقعاتها "على نحو غير مبرر"، ورأى أن المقترحات "غير قابلة للنقاش" لأن لندن تريد العودة "لإسرائيل"، ورجح بن جوريون معرفة الولايات المتحدة بالنقاش بين إيلاث Elath وسترانج وربما نصحها بالبدء فيه مع ملاحظته "مع الولايات المتحدة، يمكنا مناقشة أي شيء".
في مقابل هذا التصور للإقليم المحيط بإسرائيل، اعتمد صناع السياسة الإسرائيليون في تصميم وتطبيق "حلف الأطراف" على تصورهم للتهديدات المحيطة "ببلادهم" وهويتهم، وارتهن ذلك بعوامل موضوعية من قبيل معاداة القوتين العسكريتين المصرية والسورية، وموارد “إسرائيل” الطبيعية المحدودة، وصعوبة الوصول للواردات الإقليمية بسبب العداء من دول الجوار المباشر. لكن المكون الأيديولوجي والتاريخي يظل حاضراً إذ نظر قادة “إسرائيل” للوحدة العربية كتهديد أيديولوجي رئيس تم تصويره كشكل جديد من النازية.[3] وأرجع سمعان جان لوب المقاربة الصهيونية إلى المفهوم الألماني realpolitik المناقض لليبرالية أو المثالية، وارتبط المفهوم عن كثب في المراحل المبكرة من تكوين دولة “إسرائيل” بفكرة فلاديمير جابوتينسكي V. Jabotinsky عن "جدار حديدي" التي وفرت خلفية فكرية للمفهوم. ولاحقاً صيغ المفهوم وعزز من قبل شخصين بالغا الاختلاف في الأيام الأولى للدولة اليهودية وهما السياسي باروخ أوزيل B. Uziel، ومؤسس الموساد رؤوفين شيلوَح Reuven Shiloah. إذ بذل الأخير جهوداً فائقة في توطيد علاقات "إسرائيل" وفق هذا المفهوم، مع كل من إثيوبيا وتركيا وإيران على وجه التحديد، دون التمكن من إحداث اختراق "واضح" في الجبهة السودانية.
ويتضح من تكتيكات الحلف واستراتيجياته جنوح كبير لتجاوز مسألة فلسطين كقضية عربية محورية إلى التعامل مع قضايا "ثنائية" أخرى، لاسيما مع مصر وسوريا والعراق في تلك الفترة، الأمر الذي مهد، ضمن سياقات أخرى، لحرب يونيو 1967 والتهام “إسرائيل” لكامل الأراضي الفلسطينية واحتلال أراض عربية وفرض أمر واقع جديد في "الشرق الأوسط".
حلف الأطراف وتمرير الهيمنة الإسرائيلية
قدم شبطاي تيفيث Shabtai Teveth، في مؤلفه بالعبرية عن بن جوريون وعرب فلسطين (1985)، ملاحظات ذكية للغاية دعا فيها إلى أهمية الفصل بين "قناعات" بن جوريون وتكتيكاته؛ وتقدير التحولات التي مرت بها تلك التكتيكات خلال سنوات عديدة من الرمال المتغيرة في فلسطين. ففي السنوات 1910-1918 أعلن بن جورين للجميع أنه ثمة صراع أصولي قسم اليهود والعرب حول فلسطين؛ ومن 1918 حتى 1929 أنكر وجود مثل هذ الصراع ودعا إلى التخلص من "سوء الفهم" بين الطرفين عبر "ثورة اشتراكية". وأقر في الفترة 1929-1936 مرة أخرى بافتراق أهداف اليهود والعرب، وأنه يمكن تسوية الاختلافات بين "القوميين العرب والقادة الصهيونيين؛ ومن العام 1936 أقر أن الاختلافات اليهودية والعربية جذرية وأنه لم يعد يؤمن بإمكان تسويتها سلمياً. واستغل بن جوريون تلك التكتيكات لتحقيق هدفين لم يتغيرا بمرور السنوات: استمرار هجرة "اليهود المعرضون للخطر" بحجم كبير حتى أصبحوا أغلبية في فلسطين، والفوز بدعم قوة عالمية، وفضل أن تكون بريطانيا التي حكمت فلسطين، من أجل المشروع الصهيوني الغر حينذاك.[4]
وكان من أبرز أهداف سياسات حلف الأطراف، حسب Yoel Guzansky في مقال، صدر نهاية عام 2021،[5] مسألة المكاسب الأمنية المترتبة على العلاقات مع قوى "حلف الأطراف" ومن بينها إمكانية إبقاء "أعداء إسرائيل" مشغولون بأعداء آخرين. إضافة إلى ذلك فإن المكاسب المستقاة من مثل هذه العلاقات يمكن أن تقنع الدول العربية بقيمة تطوير علاقات مع "الدولة اليهودية". كما اعتبرت “إسرائيل” إمكانية أن تظهر للولايات المتحدة أنها في قلب المعسكر المؤيد لأميركا.
وتعويلاً على تراكم هذه الرؤى كانت لقوات الدفاع الإسرائيلي، قوة الدفع الرئيسة في مساعي الهيمنة الإسرائيلية خارج حدودها، تصورات مبكرة عن "حلف الأطراف" كما اتضح في تحليل قيادتها العليا في يناير 1951بملاحظته أن : الدول العربية تشغل مساحة 2.7 مليون ميل، تقريباً في نفس مساحة الولايات المتحدة، وعدد سكانهم 48 مليون نسمة أي نحو 47 ضعف سكان “إسرائيل” في العام 1948. وليس ذلك كل شيء، علينا ترقب الدول الأخرى التي ستستقل – من ليبيا إلى الجزائر والمغرب وتونس إذ ستضيف مساحة 1.7 مليون ميل مربع وعشرات الملايين من العرب، وهم ينتمون لثقافة ولغة ارتبطت غالباً داخل إمبراطورية واحدة، ويمكن أن نتوقع منهم رغبتهم في إعادة توحيد تلك الإمبراطورية، ثم التعاون ضد إسرائيل. بعبارة أخرى فإن للمشكلة الأمنية جانبين: توازنات قوى عميقة للغاية ونوع من الوحدة العربية سيستقر ضد اللاعب اليهودي الصغير والخارجي الذي اخترق نطاق هذه الوحدة والواقع على مفترق ثلاثة قارات.[6] واعتبر شلومو أرنسون أن هذا التحليل جسد بوضوح وفي بواكير "الدولة الإسرائيلية" فكرة "حلف الأطراف" كاستجابة للتغيرات الجيواستراتيجية، وضمانة للاستمرار عبر الهيمنة.
وكان من أولى اختبارات هذه السياسة الموقف التركي من "العدوان الثلاثي" على مصر، والذي ارتهن بشكل كبير "بالعامل العربي"، فقد أصدرت الحكومة التركية في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 1956، بعد شهر من الاعتداء، بياناً أعلنت فيه قرارها استدعاء وزيرها في تل أبيب "الذي لن يعود حتى التوصل لتسوية عادلة ونهائية للمسألة الفلسطينية"، وأكد مؤرخون إسرائيليون ضلوع الرئيس جمال عبد الناصر في هذا القرار، كما صوتت تركيا في الأمم المتحدة لصالح مقترحات تدعو لسحب القوات الخارجية من مصر، لكنها غابت عن التصويت على تكوين "قوة قيادة طوارئ الأمم المتحدة" التي كان مقرراً رقابتها لوقف العداءات، وكانت سياسة تركيا في مجملها واضحة للغاية: دعم العرب دون مبالغة لحد معاداة الإسرائيليين.[7] وفي العام 1958 بلورت “إسرائيل” مع تركيا وإيران حلف الأطراف في مرحلة متقدمة عرف وقتها باسم "ميثاق الشبح" Phantom Pact، واستمر بشكل خاص بين “إسرائيل” وتركيا على الأقل حتى العام 1969 عندما انضمت تركيا لمنظمة العالم الإسلامي وبدأت في تغيير مقاربتها بخصوص “إسرائيل” بسبب تزايد حدة الصراع العربي الإسرائيلي في تلك الفترة (وصولاً إلى الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد لفلسطين والسماح لها بفتح مكتب في أنقره في تشرين الأول/ أكتوبر 1979).[8]
وحاولت بريطانيا منتصف تموز/ يوليو الحصول على موافقة الحكومة الإسرائيلية طيران طائراتها فوق المجال الجوي الإسرائيلي؛ حيث طلبت بربارا سولت B. Salt، القائمة بالأعمال البريطانية في تل أبيب، من بن جوريون الموافقة على هذا الطلب عند الحاجة، ورد بن جوريون أنه رغم اهتمام “إسرائيل” باستمرار الوضع الراهن في الأردن فإنه ليس بمقدوره الرد دون التشاور مع الوزارة أولاً. وكانت الحكومة الإسرائيلية قلقة إزاء الانقلاب في العراق (الذي تراكم به شعور شعبي بالعداء للصهيونية وبريطانيا معاً على الأقل منذ مظاهرات مطلع العام 1928 احتجاجاً على زيارة الصهيوني البريطاني البارز السير ألفريد موند A. Mond لبغداد[9] التي أعلن بعدها أنها "غير ذات أهمية سياسية" بل بهدف زيارة "بابل"، و الذي غادر بعدد انتهاء زيارته إلى القدس مباشرة حيث عرف عنه تبرعه السخي للحركة الصهيونية بفلسطين[10]) وخشي بن جوريون من تكرار الحدث في السعودية والسودان والأردن. ووفقاً للبروفيسور هركابي Harkabi، رئيس استخبارات جيش الدفاع الإسرائيلي حينذاك، فإن الانقلاب باغتب تماماً إسرائيل، وأن بن جوريون كتب لأيزنهاور خلال الأزمة أن النظام الجديد في العراق يجب أن يعامل بتشكك عميق لأنه أقرب للشيوعية من قرب عبد الناصر نفسه لها. كما تخوف الإسرائيليون من وقوف عبد الناصر وراء الانقلاب لأن عارف نفسه اعتبر "ناصرياً"، لكن قبل تداول الوزارة الإسرائيلية الأمر فوجئت fait accompli بتصرف الحكومة البريطانية على أن مسألة الموافقة محسومة وبدأت رحلات طائراتها بالفعل.[11]
تصنيع الدور الإسرائيلي الإقليمي: استقطاب إثيوبيا
قامت سياسة “إسرائيل” الأفريقية في السنوات الأولى من تكوينها على الأقل، وفق هوارد باتن H. Patten في مؤلفه المهم عن "إسرائيل والحرب الباردة" (عام 2013)، على دافعين أولهما استكمال سياسة الأطراف في محاولة لتجاوز الرفض الذي تواجهه في العالم العربي، وتقديم تجسيد رسمي لوضعها كدولة غير منحازة.[12]
وفي سياق مواز، يلاحظ أنه رغم تشابك الروابط الثقافية والدينية بين إثيوبيا الحديثة ومحيطها العربي، لاسيما مصر التي ارتبطت إثيوبيا بكنيستها الأم دينياً واستقبلت في النصف الأول من القرن العشرين أفراد من النخبة الحاكمة لتلقي التعليم في مؤسساتها التعليمية مثل فيكتوريا كوليدج بالإسكندرية أيضاً، فإن العلاقات السياسية الإثيوبية- العربية ظلت في حدودها الدنيا دائماً، والتقت هذه الحال مع رغبة “إسرائيل” في اصطناع دور إقليمي قيادي في محيطها المباشر. وفي المقابل روجت الرواية الإسرائيلية–منذ نهاية الأربعينيات في واقع الأمر- لفكرة السعي لعلاقات مع الدول الأفريقية، وفي مقدمتها إثيوبيا، استجابة للعزلة التي فرضتها جامعة الدول العربية على إسرائيل. وعلى سبيل المثال فقد اتضحت هذه التأثيرات في العام 1955 عندما قبلت “إسرائيل” دعوتهاالمشاركة في مؤتمر الدول الآسيوية والأفريقية المستقلة في باندونج، قبل أن يسارع رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهر بسحبها "بضغوط مصرية وباكستانية."
وقدرت “إسرائيل” مبكراً، وبتنسيق أميركي تام يصل لدرجة التشكك في استقلالية السياسة الإسرائيلية، أهمية إثيوبيا في سياسات القرن الأفريقي وأفريقيا ككل. وتمثل ذلك لاحقاً في جولة شهيرة قام بها ريفون شيلوح Reuven Shiloah لأديس أبابا في منتصف نوفمبر 1958 التقى خلالها بجوزيف ساترثويت J. C. Satterthwaite السفير الأميركي هناك (ومساعد وزير الخارجية للشئون الأفريقية لاحقاً) الذي بارك التقدير الإسرائيلي (كما كشفت المراسلات الأميركية الإثيوبية عن مثول المسألة الإسرائيلية في قلب الاهتمام الأميركي). وخلال لقاء شيلوح مع رئيس الوزراء الإثيوبي في اليوم نفسه كانت بؤرة محادثاتهما "انقلاب عبد الله خليل" في السودان وتخوفهما المشترك من "سقوط السودان في يد ناصر" الذي ألف هيلاسيلاسي مقارنته في اللقاءات الثنائية مع المسئولين الإسرائيليين والأميركيين تحديداً بأحمد بن إبراهيم "الغازي" العدو اللدود "للدولة الحبشية" في القرن السادس عشر.[13]
وكانت إثيوبيا، وظلت رغم بعض التراجعات المرحلية، أوثق حلفاء "إسرائيل" في أفريقيا، على النحو الذي جسده بدقة وصف شيمون بيريز لهذه العلاقة بأنه كان بها "شيء من الرومانسية، وبدا أن كل دولة منهما تكن للأخرى شعوراً خاصاً" ورأى أنه بغض النظر عن قدم العلاقة بين الشعبين فإن إثيوبيا تمثل لأغلب الإسرائيليين "بلد الجمال والروعة"، أو كما شبه كل من بن جوريون وهيلا سيلاسي، الذي يملك تاريخاً حافلاً من العلاقات مع الصهاينة قبل زيارته الشهيرة للقدس لاجئاً في العام 1936 وبعدها، علاقاتهما بأنها تماثل علاقات الملك سليمان بملكة سبأ.[14]
وبينما كانت مردودات العلاقات الثنائية بين “إسرائيل” وإثيوبيا محدودة اقتصادياً (حتى نهاية الخمسينيات وقبل توغل أجهزة الأن الإسرائيلية في بنى النظام الإثيوبي العسكية والأمنية حتى سقوط هيلاسيلاسي 1974) فإن الجانب الاستراتيجية وأهداف "حلف الأطراف" ظلت تحكم المقاربة الإسرائيلية لإثيوبيا؛ وقد أظهر خطاباً من بين جوريون للرئيس الفرنسي شارل ديجول بتاريخ تموز/ يوليو 1958 (أرسل نصاً مشابهاً له في الوقت نفسه للرئيس الأميركي أيزنهاور) حرص “إسرائيل” على إقناع الأوروبيين بأن دعم إثيوبيا مهم لموجهة أطماع عبد الناصر في الهيمنة وأن: "استقلال إثيوبيا محجم undermined لأن ناصر يتدخل بالفعل في إريتريا وجيبوتي والصومال البريطاني والصومال الإثيوبي (إقليم أوجادين) ويعتمد على خلية من المسلمين داخل إثيوبيا نفسها، وبمواجهة مخاطر هذه التطورات حاولنا –حسب خطاب بن جويون- تعزيز صلاتنا مع أربعة دول مجاورة على أطراف الشرق الأوسط: إيران وإثيوبيا وتركيا والسودان.[15]
خلاصة: حلف الأطراف بين الانقطاع والاستمرارية
ارتبط تدهور "حلف الأطراف" الأساسي بسقوط هيلاسيلاسي (1974) ثم الشاه (1979)، وبقاء تركيا الدولة الوحيدة في هذا الحلف مع "إسرائيل". كما ارتبط بتآكل "عزلة إسرائيل" بعد معاهدات السلام التي وقعتها مع مصر (1978 والأردن 1994) التي قلصت من أهمية "حلف الأطراف". وهو ما يُطرح اليوم على نحو كبير كسؤال في أروقة القرار الإسرائيلية.
[1]Seliktar, Ofira, New Zionism and the Foreign Policy System of Israel, Routledge, London, 1986, p. 223.
[2]Bialer, Uri, Between East and West: Israel's Foeign Policy Orientation 1948-1956, Cambridge University Press, Cambridge, 1990, pp. 235-55.
[3]Samaan, Jean-Loup, Israel's Foreign Policy Beyond the Arab World: Engaging the Periphery, Routledge, London, 2018, pp. 11-12.
[4]Teveth, Shabtai, Ben-Gurion and the Palestinian Arabs, From Peace to War, Oxford University Press, New York, 1985, p. ix.
[5]Guzansky, Yoel, Israel’s Periphery Doctrines: Then and Now, Middle East Policy, Vol. 28, Noveber 2021, p. 90.
[6]Aronson, Shlomo, David Ben-Gurion an the Jewish Renaissance (translated by Naftali Greenwood), Cambridge University Press, Cambridge, 2011, p. 224.
[7]Samaan, Jean-Loup, Israel's Foreign Policy Beyond the Arab World: Engaging the Periphery, Routledge, London, 2018, P. 49
[8]Volk, Thomas, Turkey’s Historical Involvement in MiddleEastern Alliances: Saadabad Pact, Baghdad Pact, and Phantom Pact, L'Europe en Formation, Centre international de formation européenne, 2013/1 n° 367pp. 26-7.
[9]Sluglett, Peter, Britain in Iraq: Contriving King and Country, I. B. Tauris, London, 2007, p. 129.
[10]Sir Alfred Mond Leaves Bagdad by Aeroplane, Returns to Jerusalem, Jewish Telegraph Agency, February 16, 1928 https://www.jta.org/archive/sir-alfred-mond-leaves-bagdad-by-aeroplane-returns-to-jerusalem
[11]Almog, Orna, Britain, Israel and the United States, 1955-1958, Frank Cass Publishers, London, 2005, p. 181.
[12]Patten, Howard A. Israel and the Cold War: Diplomacy, Strategy and the Policy of the Periphery at the United Nations, I. B. Tauris, London, 2013.
[13]Samaan, Jean-Loup, Israel's Foreign Policy Beyond the Arab World: Engaging the Periphery, Routledge, London, 2018, p. 87.
[14]Samaan, Jean-Loup, Israel's Foreign Policy Beyond the Arab World: Engaging the Periphery, Routledge, London, 2018, p. 86.
[15]P. 89.
Related Posts
أستاذ جامعي وباحث مصري