من تجده اليوم بعد هذه العشرية الدموية يتحدث عن "ثورة" ويجدد الاحتفاء فهو بالتأكيد لن يكون رفيق الخروج من المأساة، لم يبدِ من الندم أو حتى المراجعة ما يؤهله للخروج. والعكس صحيح، من لا يعترف بالثورة ولا يبدي من الندم أو حتى المراجعة ما يؤهله للخروج، لن يكون رفيق الخروج من المأساة.
"الندم".. أنين عشرية سورية
"ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطَراً ورِئاءَ الناس ويصدّون عن سبيل الله والله بِما يَعملون محيط" (سورة الأنفال – 47).
***
من بين عشرات الأعمال الدرامية السورية التي أُنتجت في العقد الأخير، يمثل مسلسل "الندم" – بظني - ما هو أكثر من عمل درامي؛ إنه مرثية لما يحدث في سوريا ولها، لحن درامي يمزّق نياط القلب ويدمي مآقي العين. نجح الأستاذ حسن سامي يوسف أن يجعل من كل كلمة إسقاط، ومن كل مشهد ملحمة تقتحم وجدانك لتثير تساؤلاتك وشجونك؛ فتفيض دموعك حزناً على واقع الحال وإشفاقاً من مآلات الأحوال. حتى أسماء الشخصيات لم تعدم المعاني والإسقاطات، فالأرجح - وعلى طريقة الأستاذ نجيب محفوظ - لم يخترها مصادفة. "عروة": يحاول طوال الوقت لملمة ما تبعثره الخطوب والأهوال، المتمسك ببقية من أخلاق وضمير وإنسانية وسط واقع جهنمي. "براء": جاءتها الحرب طفلة متميزة مجتهدة، في صراع بين فطرتها السليمة وسلوك أمها، لينتهي بها الحال شابة تعمل في البغاء. عمل يمكننا القول إنه "مشغول بحب". الرؤية الإخراجية المتميزة لـ"الليث حجو"، سيما جرأته في عرض الحاضر بالأبيض والأسود والماضي بالألوان، وكانت فكرة غاية في التميز لأنها بالغة الدلالة (وهنا تكمن عبقرية من يجيد تسخير لغة الصورة). أداء أكثر من رائع في مبارزة تمثيلية تربع على قمتها بلا منازع الأستاذ الكبير سلوم حداد.
في مشهد ليلي، خارجي/داخي، يجمع بين عروة وبراء، تُختزل المأساة التي حلّتْ على المجتمع. كاتب ميسور الحال لديه حد أدنى من الأخلاق والمبادئ، وفتاة ليل جامعية درست الأدب، لم يرحمها الظرف ولا المجتمع. بعد يأسها منه كـ"زبون" محتمل لأنه لا يدفع مقابل جسد امرأة، قبلت بما عرضه عليها (عشاء برفقته وألف ليرة- في حينه)، وأثناء تناول الطعام عرف منها وعنها، وفي لحظة صراحة مع النفس ومع الغير، جاء على لسان عروة نقد ذاتي رائع للمثقفين والكتاب، وذلك عندما سألته عن مهنته فأجابها أنه كاتب، فقالت: وماذا تكتب؟
قال: تفاهات .. ويدفعون مقابلها مبالغ كبيرة! تعجببت وقالت بمرح: أريد أن أعمل معك. قال: لن تعجبهم حكاياتكِ، لأنها حقيقية! وتبلغ الدراما ذروتها مع نهاية المشهد عندما يعرض أن يوصلها إلى بيتها فتقتبس المتنبي قائلة: أنا الغريق فما خوفي من البلل، وتستطرد: أسوأ ما قد يحدث هو الاغتصاب، وهو بشع بالتأكيد، لكن الواقع أكثر قتامة وبشاعة. يشعر عندها أن الأرض تميد به ولا يستطيع سماع المزيد.
قد أغامر -ولعلي لا أبالغ- بالقول أن مشهد الختاممن أجمل وأبلغ ما شاهدته في السنوات الاخيرة عن الواقع السوري. رسالة قوية وواضحة، دراما مكثفة ومتقنة، حبكة ولا أروع، وبالطبع براعة "الليث حجو" في تسخير الصورة، في هذا المشهد يتجسد "الندم" ككائن حي ينتزع منك التوبة والدموع.. ولا يغلق أبواب الأمل والرجوع! وموسيقى إياد الريماوي التي تجعل من كل حرف وخزة ندم.
وهذا جزء من المشهد كما كتبه الأستاذ حسن سامي يوسف:
المشهد: ليلي/خارجي/داخلي - الفيلا
الزمن الراهن..
الزمن الماضي..
الواقع..
الحلم..
الفيلا مُظلمةٌ تماماً، وليس فيها أيُّ أثرٍ للحياة. سهيل يقف بالبوّابة، وقد وصل تواً. يبدو محزوناً، ومقهوراً. يقرع الجرس... لا جواب. يطرق الحديد بيديه... لا جواب. نسمع صوته يرتفع حيناً ويخفت حيناً؛ صوتٌ يفيضُ بالندم والحسرة، قد يصل في لحظة أو أخرى إلى ما يشبه المرثيّة. إنّها عودةُ الإبن الضال.
سهيل: ليكني رجعت يا أبي. أنا ابنك اللي تركك وتركلك المفاتيح. رجعت بس ما معي مفتاح البيت. ما معي يا أبي أي مفتاح لأي باب بهالدنيا. وأنا ما بدي غير بابك إنت. عم تسمعني أبو عبدو؟. ما بدي غير بابك إنت يا أبي. أنا ابنك المغضوب اللي ما كنت تحبو وما بعرف ليش. أنا، صدقني يا أبي، ما تركتلك المفاتيح وهربت إلاّ منشان ما أعمل قابيل وهابيل مع أخي عروة. ليكني رجعت وما بدي إلا رضاك. أنا غلطت معك، وغلطت بحقك لما تركتك للكلاب يتمقطعوا فيك. يا الله يا أبي شو ندمان!. منشان الله تسامحني.
وفجأةً.. تُضاءُ غرفةٌ في الفيلا، ثم غرفةٌ ثانيةٌ، فثالثة. يُضاءُ الصالون. تُضاءُ الحديقة. تُضاءُ البوّابة، وتنفتح. أبو عبدو بجثته الضخمة كان يرتدي "جلابيةً" بيضاءَ، وفوقها عباءَة ثمينة. يتجمد سهيل أمام أبيه، الذي كان يتأمله بعينين تشعّان بالطيبة والصرامة في آنٍ معاً.
أبو عبدو: كنت متأكد إنك بيوم من الأيام رح ترجع. اللي أبوه أبو عبدو الغول ما بيقدر ما يرجع قد ما طوّلت غيبته. ( يمدُّ يديه إلى إبنه) فوت لك ابني فوت.
وبعد..
اليوم، لن نقول ما قاله الأستاذ حسن سامي يوسف مع تتر البداية وتتر النهاية، لن نردد قوله: قد أكون على خطأ، ولكنَّ هذا لا يعني بعدُ أنك على صواب. لأننا، وبعد عقد دموي مزّق أوصال بلد كان - وبلا مبالغة - يوصف بأنه "بلد الفقير المستور"، سوريا وكأنها تفجرت من الداخل، سوريا يلزمها عقود لجبر ضررها، مجتمعياً، عسكرياً، اقتصادياً وسياسياً، فقط لأن البعض كان يريدها "قابيل وهابيل"!، فقط لأن البعض ينطبق عليهم قول المولى عز وجل "كالذين خرجوا من بيوتهم بطرا ورئاء الناس"! خرجوا لإرضاء عدسات الفضائيات، خرجوا يطالبون بالحرية والديمقراطية فإذا بهم يحطمون بلدهم تحطيماً، أي حرية وديمقراطية؟! خرجوا بطراً فتحولت البلد إلى أشلاء!. نعم؛ سوريا اليوم أشلاء. لست هنا أكتب نصاً تعبوياً ولا رغبوياً، بل أكتب عن الندم. الندم الذي يحتم علينا التحقق من مواقعنا جيداً كي نستطيع العبور والخروج من هذا التيه الجهنمي، وللخروج يجب ألا نجامل ولا نتجمل. بعد كل ذلك، وبعكس قول الأستاذ حسن سامي يوسف نقول: كانوا على خطأ وكنا على صواب. من تجده اليوم بعد هذه العشرية الدموية يتحدث عن "ثورة" ويجدد الاحتفاء فهو بالتأكيد لن يكون رفيق الخروج من المأساة، ما لم يبدِ من الندم أو حتى المراجعة ما يؤهله للخروج. والعكس صحيح، من لا يعترف بالثورة ولا يبدي من الندم أو حتى المراجعة ما يؤهله للخروج، لن يكون رفيق الخروج من المأساة. الحرب في طور مختلف تماماً عن صورتها الأولى، ولكل طور مخلّفاته. من يتحدثون اليوم عن "ثورة" هم مجرد مخلّفات فكريّة ونفسيّة بانتظار الإعدام والدفن.
Related Posts
كاتب مصري