لم تكن اللقاءات الأولى بين المهاجرين الروس والمستوطنين الإسرائيليين في فلسطين ودية بالكامل. سنوات التسعينيات ومع بدء الهجرة الروسية إلى "إسرائيل"، عاش الروس ظروفاً صعبة. هم سكنوا المناطق الفقيرة، وكانت غالبية هذه المناطق من السفارديم. الاحتكاك الإثني في هذه المناطق كان مكثفاً ومصحوباً بالمنازعات. مشاعر الإهانة والإستغلال كانت بادية في كل تفاصيل حياة الروس؛ في العمل، في الأحياء، وفي الأسواق.
المستوطنون الروس في الكيان: تحولات الهوية والدور... الجزء الأول
أواخر التسعينيات، شكلت قصص المهاجرين الروس إلى "إسرائيل" حقل انشغال الأكاديميا الإسرائيلية بشكل كبير. كانت قصة لارا أليكسييف - الفتاة اليهودية الروسية القادمة إلى فلسطين بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي – عينة عن تحولات كرونولوجيا الهوية في "إسرائيل". لارا فتاة لطيفة "شعرتْ بالراحة عندما عاملها أهل حيها الاستيطاني الجديد بالقرب من بئر السبع بشكل محترم ولطيف". لقد سارع المستوطنون بإحضار الهدايا لها في عيد الفصح. إلى أن حدث شيء فظيع. كانت الساعة تقارب الثانية عشر ليلاً عندما قُرع باب منزل لارا. وما إن فتحت الباب حتى راح جمع من المستوطنين يكيلون الشتائم والسباب والتهم لها بسرقة مبلغ من المال (نحو 30 ألف دولار). اقتيدت لارا للتحقيق في مركز للشرطة بالقرب من بئر السبع. وهناك، شَعرَت بالإهانة والعجز أمام المحقق ذي الأصول الشرقية. تقول لارا: "في تلك اللحظة جلس أمامي شخص أشبه بقرد أسود، وراودني الشعور بأنني أنا الإنسانة الأفضل والأذكى طوال الوقت، فكيف لهذا الشخص يخاطبني فجأة بمثل هذا الكلام ويوجه لي الاتهام؟، وهو الذي يعجز عن فهم وإدراك أن هناك أشياء أهم من المال ولها قيمة أكبر. سعيتُ لأن أشرح له وأوضح الأمور، لكنني أدركت عجزي. بعد وقت قصير من بدء التحقيق، بدأ يوجه لي مختلف أنواع الأسئلة: هل لديك صديقات يعملن في الدعارة؟ قلت بيني وبين نفسي: ويحك، ما هذا السؤال؟ ما الذي تقوله؟، هنا أدركت أن ثمة "نحن" و"هم". نحن لسنا إسرائيليين فحسب".
تحلل كل من "يوليا لرنر، وتمارا رابابورت، وعدنا لومسكي"، في الجامعة العبرية في القدس سلوك لارا وأساليب دفاعها النفسي. "من أجل صد الإهانة ومواجهة القوة التي مورست ضدها تعمدت لارا ممارسة الاستعلاء الثقافي كطريقة للدفاع النفسي والمقاومة. يتيح لها هذا المنظور مواجهة العنف الذي تواجهه".[1] النتيجة أننا أمام جهازين متصارعين؛ سلطوي ونفسي. تقمع الدولة المستوطنين الجدد، فيما يستدعي المستوطنون هوياتهم الثقافية والعرقية والبيولوجية المواجهة العنف الدولتي.
وبالمجمل، لم تكن اللقاءات الأولى بين المهاجرين الروس والمستوطنين الإسرائيليين في فلسطين ودية بالكامل. سنوات التسعينيات ومع بدء الهجرة الروسية إلى "إسرائيل"، عاش الروس ظروفاً صعبة. هم سكنوا المناطق الفقيرة، وكانت غالبية هذه المناطق من السفارديم. الاحتكاك الإثني في هذه المناطق كان مكثفاً ومصحوباً بالمنازعات. مشاعر الإهانة والإستغلال كانت بادية في كل تفاصيل حياة الروس؛ في العمل، في الأحياء، وفي الأسواق. لقد اصطدم المهاجرون منذ لقائهم الأول مع "المستوطنين المحليين" بصور نمطية رسمت لهم؛ "الروس لصوص، والروسيات مومسات". ألحق هذا التنميط ضرراً وإهانة شديدين بـ"المستوطنين الجدد"، الذين فهموا أن الإسرائيليين عامة - والشرقيين بشكل خاص - لا يحترمون الثقافة التي أتوا منها. لقد زعزع لقاء اليهود الروس بالإسرائيليين عامة، السفارديم والأثيوبيين بشكل خاص، المعرفة البديهية لدى الروس في ما يتعلق بتعريف الحدود الإثنية اليهودية.
تتمير نظرة المهاجرين الروس للشرقيين/ السفارديم بكونها مركبة بعض الشيء. مجموعة هامشية تمارس الاستشراق تجاه مجموعة هامشية أخرى في سياق علاقات متضادة من القوة. يعتبر الروس أنفسهم جزءاً الثقافة الرسمية المهيمنة في "إسرائيل". غير أنهم يقبعون في الوقت ذاته في موقع هامشي لكونهم جدداً في المجتمع. في بحثه حول الاستشراق الما بعد صهيوني، يقدم المؤرخ الإسرائيلي دميتري تشومسكي، تحليلاً خاصاً لخطاب الإنتليجنسيا الروسية الإسرائيلية في الأدب والثقافة.[2] دميتري يخلص إلى أن النخبة الروسية في "إسرائيل" في تطلعها "للآخر الشرقي الصهيوني" استشراقية وإمبريالية في آن. تحتفظ هذه النخبة بتصور أوروبي لذاتها يكرس مكانة الروس الثقافية والاجتماعية في الكيان. الموقف الاستشراقي تجاه السفارديم/ الشرقيين ليس ظاهرة جديدة في المجتمع الإسرائيلي. في الأدبيات النقدية الأكاديمية، ثمة ما يُشبه "الإجماع" في أن الممارسات والآليات التي تصوغ العلاقات بين الأشكيناز والسفارديم استشراقية بامتياز. ومع ذلك لم تستطع النظرية "الما بعد كولونيالية" في الأكاديميا الإسرائيلية النظر للأشكيناز بنفس النحو الذي نظرت فيه للشرقيين/ السفارديم. فبينما قامت الأدبيات "الما بعد كولونيالية" على تفكيك الهوية المشرقية واعتبارها "متصدعة وقابلة للتفكيك" لم تقم بالأمر ذاته تجاه الأشكيناز. وهذه الوضعية بالتحديد هي التي يستفيد منها الروس في "إسرائيل" بإلحاق أنفسهم بالأشكيناز.[3]
بإمكاننا تلمس هذا الأمر في فارق الكتلة التصويتية الروسية قبيل بدء هجرة الروس الكبرى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبُعيد انهياره. في انتخابات سنة 1989 صوت غالبية "المستوطنين الروس" لصالح الليكود ذي القواعد الشرقية اليمينية. في انتخابات سنة 1992، ومع بدء الهجرة الكبرى من الاتحاد السوفياتي، صوتت الكتلة الأكبر من القادمين الروس (47.1% منهم) لصالح حزب العمل ذي القواعد الأشكينازية/ الغربية العلمانية، وكان تصويتهم عاملاً رئيساً في انتصار الحزب. في انتخابات 1996 حدث تغيير جوهري في سلوكهم الانتخابي، إذ صوت "الروس" ليسرائيل بعلياه (الحزب الذي أسسه المهاجر الروسي ناتان/ أناطولي شيرانسكي) العلماني. لكنهم وللمفارقة سرعان ما تحالفوا مع نتنياهو وكانوا عاملاً مهماً في انتصاره على شمعون بيريز. يُرجع شيفح فايس سبب تحول المزاج الروسي إلى عجز حزب العمل عن وقف حملة التنميط والازدراء التي تعرض لها الروس حتى عام 1996، الأمر الذي أفضى بالناخب الروسي لمعاقبة الأحزاب العلمانية – الأشكينازية والبحث عن هوية خاصة به. ناتان شارانسكي كان أنموذج الشخصية الروسية الصهيونية الحائرة. السجين السوفياتي السابق، والعميل للأميركيين، والرمز الثوري "للعالم الديمقراطي الجديد" كان الأمل الجديد لهم من خلال تأسيسه حزب "يسرائيل بعلياه". لقد وجد الروس في شارانسكي ما يُبرّئهم من عقدة إثم بقائهم في الاتحاد السوفياتي طوال العقود الأربعة الأولى من عمر الكيان. هكذا مضت الكتلة الروسية حائرة وغير قادرة على حسم موقفها من الهوياتي. انتخابات عام 2003 كانت الأكثر تعبيراً عن هذا الانقسام. من أصل 23 عضو كانت الكتلة الروسية قادرة على إيصالها إلى الكينيست (فيما لو صوتت بشكل موحد) حصل الليكود على 7 – 9 أعضاء، حزب "الاتحاد الوطني" (وشمل أحزاب موليديت، تكوما، حيروت، إسرائيل بيتنا) 4 – 5 أعضاء، شينوي 4 أعضاء. يسرائيل بعلياه عضوين. ميرتس عضو واحد، العمل عضو واحد.
هكذا توزعت الكتلة التصويتية الروسية بين على خمسة أنواع من الأحزاب: 1- الأحزاب التي ترتكز على أصوات المهاجرين الروس وتُقاد من الروس أنفسهم (حزب يسرائيل بعلياه، حزب "المواطن والدولة"، حزب ليدر). 2- أحزاب تعتمد على تأييد المهاجرين وجماعات متطرفة (الاتحاد الوطني، موليدت) 3- أحزاب يمينية حاكمة، تمثل مصدر معيشة وحماية للمكاسب المادية للمجتمع الروسي الصهيوني (الليكود). 4 – أحزاب علمانية وسطية تقوم على العداء للتدين المشرقي (مثل حزب شينوي بقيادة يوسي لبيد). 5- أحزاب يسارية وعربية تعتمد الطبقة الوسطى الأكاديمية كركيزة لها (ميرتس، الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة).[4]
الغريب، أن هذه التوجهات ستلازم انقسامات الجماعات الصهيونية ذات الأصول الروسية في الكيان الصهيوني إلى اليوم. وهو ما سنضيء عليه في القادم من الأيام.
[1] لرنر، يوليا، تمار، ربابورت، وعدنا لومسكي – بدر: سيناريو إثني مهاجر: يهود روس يتمركزون في إسرائيل "لقاء حدود: الهجرة وإدارة السكان في "إسرائيل" في العصر الحديث، تحرير يوسي يونا، وأدريانا كامب، معهد فان لير في القدس والكيبوتز الموحد – تل أبيب 2004.
[2] Shumsky, Dimitry (2004). Post – Zionist Orientalism? Orientalist Discourse and Islamophobia among Russian - speaking Intelligentsia in Israel, Social Identities 10(1): 83-100.
[3] Fialkova, Larisa and Maria Yelenevskaya (2004). How to Find the West in the Middle East: Perceptions of East and West amongst Russian Jews in Israel, in: Times, Places, Passages: Ethnological Approaches in the New Millennium. Pub: Akademiai Kiado, House of the Hungarian Academy of Sciences, pp. 453 - 480.
[4] مسعود إغبارية، المهاجرون الروس الجدد وانتخابات 2003 في "إسرائيل": اندماج سياسي وليس اجتماعياً، مجلة قضايا استراتيجية، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، رام الله 2004، ص 24.
Related Posts
رئيس تحرير صحيفة الخندق